الإعلام الجديد والقيم: من النقد الأخلاقي إلى تحليل أشكال الاتصال

الإعلام الجديد والقيم: من النقد الأخلاقي إلى تحليل أشكال الاتصال

هشام المكي*

 

مقدمة

يظهر الإعلام الجديد كمجال واعد، يتربع المستهلك على عرشه، إذ تتعدد أمامه الاختيارات والإمكانات، كما يعد شريكا فاعلا في صناعة المحتوى وتداوله. ويمتد الإعلام الجديد، ليجدد المؤسسات الإعلامية القائمة، ويدفعها نحو المزيد من التواصل مع جمهورها، كما يبتكر خدمات إعلامية متجددة.

أما المحتويات الهائلة التي تطبع عصر الاتصال، فيتم إنتاجها رقميا بأعلى درجات الجودة، كما يتم تحويل مختلف المحتويات الإعلامية “التقليدية” إلى الصيغة الرقمية، مما يتيح إمكان إدماج الوسائط المتعددة (صوت، وصورة، ونص، وروابط…) في المحتوى المروج؛ هذا يضفي على المنتج الإعلامي خصائص تميزه عن الصيغة الورقية (المكتوب/ الصحافة الورقية)، أو الصيغة الشفوية (الشفهي/ الإذاعة)، أو حتى الصيغة المرئية (الصورة/ التلفزيون).

لكن هذا يتطلب في المقابل إمكانات وقدرات جديدة للاستهلاك والتلقي وإدراك المعطيات الجديدة وفك شفرتها، سواء على المستوى المادي بالتوفر على العتاد الملائم (حاسوب، هاتف ذكي…) أو المستوى التقني (برامج قراءة ملفات الصوت والصورة والنصوص…)، أو على المستوى المهاري (التمكن من تقنيات التصفح، والبحث والنسخ…). إننا أمام إكراه تقني أساسا، وهو أيضا تمييز صارخ: إذ نتحدث عن ديمقراطية الإعلام الجديد وإتاحته للجميع وتحرره من كل أشكال السلطة، لكنه في المقابل يفرض إقصاء حادا ذا سند تقني: فالإعلام الجديد ليس متاحا للجميع، بل هو متاح فقط لمن يملكون عتادا تكنولوجيا ملائما، ويمتلكون مهارات استخدامه!

عموما يبقى الإعلام الجديد قطاعا واعدا، من الصعب التنبؤ بمستقبله وتحولاته، ورغم ذلك، فقد تحقق من التراكم ما يكفي لتعرف توجهه العام، وسماته الأساسية التي تسمح نسبيا بتعرف تأثيره على القيم وما يفرضه عليها من تحولات؛ لكن الحديث عن القيم في الإعلام الجديد ينبغي أن يتوخى أقصى درجات الحذر؛ لأن الأمر يتعلق بمجال جديد في طور التشكل، الثابت فيه هو التغير المستمر. صحيح أننا نتحدث عن الإعلام الجديد بحفاوة بالغة، مردها الانبهار بإمكاناته التي لا تنتهي وتجدده المستمر؛ لكن إعجابنا بالإعلام الجديد لا يخفي عدم إدراكنا لأبعاده الحقيقية وخصائصه وما يفرضه على أبعاد حياتنا المتعددة من تحولات معظمها كامن عصي عن الإدراك.

وعندما نتحدث عن القيم في الإعلام الجديد، فإننا نتجه في الغالب نحو النقد الأخلاقي للمحتوى الإباحي أو المحرض على العنف مثلا، للتحذير من أخطاره على الأطفال والشباب. لكن في الواقع، يعد المحتوى الغير أخلاقي للإعلام الجديد أخف الأخطار وأهونها؛ وفي نظرنا، يأخذ إشكال القيم في الإعلام الجديد مظهرين اثنين: أزمة مناهج للتعامل مع هذه القيم وتحليلها؛ وأزمة أشكال ووضعيات تواصلية جديدة، تغير قيم عيشنا وتؤثر فيها: فتأثير شكل الاتصال في الإعلام الجديد على القيم أقوى من تأثير مضمون الاتصال، وهذه هي الفكرة الأساس التي ستحاول هذه الدراسة إثباتها من خلال أمثلة ونماذج تتعلق بالتحولات التي طالت مجالين من القيم: القيم الإنسانية والقيم التواصلية.

أولا: تحولات القيم الإنسانية

ساهمت السيبرانية ونظرية المعلومات في بلورة مجموعة من الأفكار والتصورات حول مفهوم الاتصال، ليس باعتباره تقنية أو أداة، وإنماء باعتباره رؤيةً إبستمولوجية، وقيمة جديدة قامت على أنقاض إيديولوجيات الحربين العالميتين، ونمطا للحياة الاجتماعية. تشكل هذه الأفكار في الواقع الخلفية الفلسفية التي يتأسس عليها الإعلام الجديد، ويتلخص أهم تلك الأفكار فيما يلي[1]:

  • التفكير نشاط مادي للدماغ؛
  • يمكن محاكاته وتقليده بواسطة آلات اصطناعية؛
  • يمكن تفسير الواقع بالكامل بتعابير المعلومة والاتصال؛
  • تقوم حياة الكائنات جميعها على سلوك تبادل المعلومة؛
  • تسوية الإنسان بالطبيعة والآلات، واعتماد تراتبية تقوم على درجة تعقد سلوك تبادل المعلومة؛
  • يخلص الاتصال (الجولان الحر للمعلومة) المجتمع من العنف والبربرية؛
  • المجتمعات “المفتوحة” القائمة على الاتصال، تنجو من الوقوع في الفوضى والأنتروبيا؛
  • التواصل البشري هو تبادل للمعلومات، في إطار بنية بسيطة وخطية: هناك مرسل يرسل رسالة إلى مستقبل، يفك شفرتها، ليتمكن من فهمها…

تعبر هذه الأفكار التي ظهرت في منتصف القرن العشرين، عن واقع الإعلام الجديد ومقولاته المؤسسة بشكل واضح وجلي، فالحديث عن الطابع المادي للتفكير البشري وإمكانية تقليده، كان فاتحة أبحاث علمية عديدة أفضت إلى صناعة جهاز الكومبيوتر، كما أن الحديث عن المجتمعات المفتوحة، يعني بالضبط المجتمعات التي تتمكن من إقامة روابط اتصال شاملة، تتميز بالتشبيك والكفاءة الاتصالية، وتتجول فيها المعلومة بكل حرية ووضوح. هذا الربط بين تحقق تواصل بهذا الشكل وتحقق النظام والاستقرار في المجتمع، فيه تثمين واضح للاتصال وتحوله إلى قيمة. وهذه القناعة، هي الركيزة الأساس لمجتمع الاتصال الحديث، بحيث أن الإعلام الجديد وتكنولوجيا الاتصال، تقوم على مفهوم الشبكة.

لكن في المقابل، يتحدد مفهوم الشبكة الاتصالية بشكل غير دقيق عند العامة، حينما يصورونه فقط بمعنى الربط المادي بين المتواصلين بشكل شبكي، في حين أن الشبكة تجمع مقولتين أساسيتين من مقولات السيبرانية: يتعلق الأمر بمحو الحدود بين الإنساني والآلي من جهة، ومعاني الربط وجولان المعلومات وسيادة الاتصال داخل المجتمع من جهة ثانية، هذا المعنى الثنائي للشبكة هو ما يؤكده “جوست فان لوون” في الإعلام الجديد بقوله: ” إن مفهوم البقاء على اتصال يمكن استكشافه بمزيد من التفصيل كمنظومة من الارتباطات بين عوامل متعددة (الحدود المشتركة بين التكنولوجية-الإنسانية)، إن هذه المنظومة من الارتباطات يشار إليها بكلمة ‘شبكة’”. كما يقول في موضع آخر: “إن مفهوم الشبكة هو وسيلة فعالة تساعدنا على التفكير في وسائل ربط إنسانية تكنولوجية، ونقط التقاء، وحدود مشتركة. إنها وسيلة تجريبية لوضع مفهوم كما تمت الإشارة إليه من قبل على أنه ‘الوجود الشبكي’” [2].

فما هي التحولات القيمية التي تطال مفهوم الإنسان نفسه في شبكات الإنترنت والإعلام الجديد؟

في واقع الأمر، يتعلق الأمر بعملية إعادة تركيب مفهوم جديد للإنسان بشكل كامل، وذلك عبر تجريد مفهوم الإنسان من كل الحمولات والتصورات السابقة، وإعادة تركيب رؤية جديدة، تتميز بخاصيتين اثنتين:

1ـ إلغاء السند البيولوجي:

أول ما تتميز به هذه الرؤية، هو تخلصها من السند البيولوجي الذي اعتبر خلفية لكل التصنيفات العرقية على مر التاريخ… من هنا، لم نعد نتحدث عن الإنسان، وإنما عن الكائن الاتصالي الذي يتميز بقدرته على إنجاز العمليات العقلية، وهي رغم تعقيدها ذات طبيعة مادية ومستقلة عن الجسد البيولوجي في نفس الوقت، وذلك ما أشرت إلى ذلك سابقا.. لذا من الممكن نقلها إلى دعائم أخرى ذات طبيعة صناعية، وقادرة أيضا على إنجاز عمليات تحاكي التفكير البشري، وأقصد هنا أجهزة الحاسوب التي تتجاوز قدراتها كفاءات العقل البشري.

يتم هنا تسوية الإنسان بالآلة، ويبرز الحديث عن “الكائن الاتصالي” بدل الإنسان. ويستنتج فيليب بريتون “أن الإنسانية الجديدة تخص كل الناس، لكن يمكنها أن تتوسع أيضا إلى كافة الكائنات المرشحة لكيان “الشريك الاتصالي” كامل الحقوق”[3].

إذ انقلب السحر على الساحر: فأفضى الحديث عن محاكاة الذكاء الإنساني إلى ابتكار آلات تحاكيه، لترقى تلك الآلات إلى مرتبة الإنسان، فيتحدد هو على ضوئها، ويدافع فاينر عن هذه الفكرة قائلا: ” أؤيد أن اشتغال الفرد الحي واشتغال بعض آلات النقل الحديثة على وجه الدقة متكافئان”[4].

وعملية تسوية الإنسان بالآلات تركز على التقارب الوظيفي بين التفكير البشري والعمليات المنطقية التي يقوم بها الحاسوب، ولإكمال عملية التسوية هذه، لابد من إلغاء السند البيولوجي للإنسان..

ولهذا حتى عندما نريد أن نفرد الحديث حول الإنسان تحديدا -لأن مفهوم الكائن الاتصالي يشمل الآلات والحيوانات أيضا- لا نستعمل كلمة إنسان، بل نتحدث عن “الإنسان المتواصل” (Homo Communicant) وهو “كائن من دون داخل ومن دون جسد، والذي يعيش في مجتمع دون أسرار، كائن متوجه بكليته نحو الاجتماعي، وهو لا يوجد إلا عبر المعلومة والتبادل، في مجتمع أصبح شفافا بفضل آلات الاتصال”[5].

وتصبح المعلومة الآن ملازمة لهوية الإنسان، كما لم يعد إلغاء الجسد مقتصرا على تقابل الإنسان مع الآلة… فما داما من طبيعة واحدة هي الكائن الاتصالي، فلا ضير من دمجهما… وهو التفكير الذي وجه تكنولوجيا المعلوميات حاليا، نحو إلغاء الحدود بين العضوي وغير العضوي… يشرح نبيل علي ذلك قائلا: “…حطمت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ثنائية العضوي وغير العضوي (الحيوي وغير الحيوي). وقد شرعت تكنولوجيا المعلومات بالفعل في المؤالفة بين الفيزياء والبيولوجيا في مجال تخصصها، وذلك بدمجها بين العناصر الفيزيائية والبيولوجية في تكنولوجيا ‘البيوسيليكون’ Biosilicon التي يجري تطويرها حاليا لتطوير وحدة بناء أساسية للكمبيوتر أكثر كفاءة…”[6].

ويحقق الإعلام الجديد نبوءة “مارشال مكلوهان” صاحب عبارة القرية الكونية الشهيرة، بكون وسائل الاتصال هي امتداد لجسم الإنسان، إذ ضاعف الإعلام الاجتماعي من قدرات الحواس البشرية، فصرنا نرى ونسمع لآلاف الكيلومترات، وصارت وسائل الإعلام الاجتماعي أكثر فأكثر صغرا والتصاقا بأجسامنا: فسماعات “البلوتوث” صغيرة وخفيفة، وكأنها إحدى الاستدارات الخفيفة لآذاننا، تضمن تلك السماعات جودة صوت عالية لكل اتصال، بل وتحقق تسوية الاتصال التكنولوجي مع التواصل الإنساني: فكأنك في حديث إنساني حقيقي، هاتفك في جيبك، ويداك حرتان، وأنت تتواصل مع أحد معارفك عبر اتصال هاتفي أو عبر مكالمات الإنترنت بكل يسر.

وهذه هي إرهاصات البداية فقط، فقد طورت إحدى شركات الاتصال المشهورة، ساعة يد أنيقة يتم تسويقها حاليا، يمكنك أن تستعمل من خلالها كل وظائف هاتفك الذكي… أما وجهة المستقبل فهي “السايبورغ” أي دمج الإنسان بالآلة، للحصول على كائن أكمل من كليهما.

2ـ إلغاء المركزية الإنسانية:

إن ربط تعريف الإنسان بالمعلومة يحيل على الخاصية التبادلية لهذه الأخيرة، إذ أن المعلومة لا قيمة لها إذا لم تدخل في شبكة من التداول والاستعمال… وكذلك الإنسي الاتصالي: لا يتحدد بفردانيته وتعبيره عن ذاته؛ وإنما بانتظامه ضمن السلوك الاتصالي الاجتماعي، وانخراطه غير المشروط ضمن شبكات التبادل…

يقول فاينر: “أن تكون حيا، يعني أن تشارك في تيار مستمر من التأثيرات الواردة من العالم الخارجي ومن الأفعال المؤثرة على هذا العالم، والذي لا نمثل فيه غير مرحلة وسيطة. إن امتلاك وعي كامل بالأحداث في العالم، هو مشاركة في التطور الثابت للمعرفة ولتبادلها بشكل حر.”[7] وقد يوحي هذا المقطع بداية بأن “الإنسان الاتصالي” فاعل في عمليات الاتصال، وناقل إيجابي للمعرفة… لكن قراءة أكثر تبصرا ستوحي بالعكس تماما: فـ “التيار” عادة ما يسوق أمامه كل ما يقع في طريقه، ولا يترك للأشياء التي يجرفها حرية التوقف أو تغيير الاتجاه… هذا من جهة. من جهة ثانية، أقف عند قول فاينر: “… والذي لا نمثل فيه (يقصد تيار الاتصال) غير مرحلة وسيطة”…

وهنا نتساءل عن مكانة الإنسان الذي شغل مركز الكون في كل الفلسفات الموالية لعصر النهضة، ووصف بأنه متميز عن سائر المخلوقات، وهو سيد لها، بفضل سلطان العلم والتقنية، ذلك الإنسان أصبح الآن مجرد وسيط، أو مرحلة في تيار تبادل المعلومة، مثله مثل باقي الكائنات الاتصالية الأخرى التي قد تتفوق عليه في مستوى تعقيد أدائها.

واعتبار الإنسان وسيطا، يعني أنه لا يتحدد إلا في سياق اجتماعي تبادلي… هذا الأمر قد يكون رد فعل على العنف الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، والتي كرست تفوق العرق، عبر تصنيفات متعددة للإنسان، تأخذ الجسد البيولوجي أساسا لها… لذا صار من اللازم نزع الجسد، و تسوية جميع الناس… الأمر الذي انتبه إليه فيليب بريتون، فيعلق قائلا: “إنسان الرابط الاجتماعي الذي سيؤسس المثال الحديث للاتصال يتشكل إذن كأطروحة مضادة بشكل شبه تام لإنسان نيتشه “الفائق”. إنه يمتنع عن أن يقاد من الداخل بفعل قوى غامضة لا يمكنها قيادته إلا نحو العنف، نحو إقصاء الآخر والبربرية، من أجل أن يخضع نفسه للضغوط الحقيقية للحياة في المجتمع. وهكذا فإن مجتمع الاتصال يرفض الإقصاء”[8].

وإن كان الاتصال يفرض إقصاء من نوع جديد: إنه إقصاء ذو سند تقني… إذ لا يمكن للأميين، والذين لا يتقنون لغة الحاسوب، ومن لا يحسنون التعامل مع آلات الاتصال الفائقة التكنولوجيا… لا يمكن لكل هؤلاء أن ينخرطوا في مجتمع الاتصال. هذا ما ينبغي الانتباه إليه بشكل أساسي.

من جهة أخرى، يؤثر الإعلام الجديد وتكنولوجيا الاتصال بشكل عميق كل أبعاد حياتنا الإنسانية، والأمثلة كثيرة ولا مجال لحصرها. فحين يجرد الإنسان من مركزيته، ويصبح مجرد وسيط مادي في شبكات الاتصال، وأحد العناصر التي تدعم جودة الاتصال، يفقد الإنسان بالتالي كل أشكال القداسة والتكريم التي اكتسبها على مر قرون عديدة. هذا ما يظهر في توظيف الإعلام الجديد للمآسي الإنسانية وتحويلها إلى مجرد معلومة، نقصد بالتحديد فيديوهات الهواة، والتي تصور مشاهد الغرق أو حوادث السير وتبثها عبر مواقع التواصل الإجتماعي ومختلف منابر الإعلام الجديد، في حين الأولى هو مد يد المساعدة وليس الانشغال بالتصوير. وحتى في حال استحالة مد يد العون، لا يبرر ذلك تحويل الإنسان الآخر إلى موضوع معرفة أو تسلية وتشييئه على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي سارتر، في غياب أي مسؤولية أخلاقية وإنسانية.

أما رواد الإعلام الجديد، فيكرسون قتل المسؤولية الأخلاقية والتعاطف الإنساني، حينما يسارعون إلى الفرجة والمشاركة، في غياب أي إحساس بالمسؤولية عن محتوى الفيديو، فنحن نشاهد جميعا صور المجاعة بإفريقيا ونشاركها منذ مدة، بل وقد فازت تلك الصور بجوائز عالمية، والمجاعة قائمة لا تنتهي، وكأن أمرها لا يعنينا، ويكفينا وضع تعليق حزين أسفل الصورة، ثم مشاركتها مع الآخرين لنتحرر من ذنب الخذلان الذي يصمنا.

من مظاهر تحول القيم الإنسانية أيضا، تراجع مكانة الإنسان إلى مجرد وسيط لسريان المعلومة، وهو ما نفعله فعلا حينما نشارك محتوى أعجبنا في الفيسبوك مثلا، إذ نصبح مثل سلك كهربائي يمرر التيار فقط. والأدهى من ذلك، هو ما تعمل عليه مواقع التواصل الاجتماعي مستعينة بالهواتف الذكية للقضاء على الخصوصية الفردية والمجال الخاص، فكل تفاصيل حياتنا اليومية تصبح شأنا عاما بفضل مواقع التواصل الاجتماعي: نشارك صورنا الخاصة، ونشارك أحداثنا العائلية، بل نشارك أحيانا تفاصيل تافهة، مثل صورة طبق الطعام الذي أعددناه للغذاء، وصورة طفلي وهو يعبث بأثاث البيت…

وتتعرض الخصوصية لتهديد أكبر مع الهواتف الذكية، وهو ما عشته شخصيا: فقبل حصولي على هاتف ذكي مؤخرا، كنت أستعمل شبكة الإنترنت بشكل منظم، وأطلع على موقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” من حين لآخر، وبمجرد إقفال الحاسوب، أتحرر من سلطة العالم الافتراضي، وأعود إلى عالم الواقع. لكن بمجرد اقتنائي للهاتف الذكي، أصبحت مرتبطا بالفيسبوك على امتداد الأربع وعشرين ساعة، يقتحم علي بعض المعارف خلوتي مع أسرتي الصغيرة، وأتحرج أحيانا وأنا مضطر لمشاركتهم الحوار مرغما، إذ يكفيهم أن يرو إلى جانب اسمي عبارة “متصل عبر الهاتف” ليفهموا تلقائيا أنني مستعد للتواصل.

وكان الحل الوحيد أمامي هو إيقاف خدمة تلقي إشعارات الفيسبوك بأنواعها، وهي الوظيفة التي يسمح بها هاتفي “الذكي”/ “الغبي”!، لمدة يوم واحد فقط كـأقصى حد، لذا أكرر العملية مرة كل يوم، ومما يهدد الخصوصية أيضا خدمة تحديد المواقع، والتي تسمح لمعارفك بتحديد مكانك بدقة، بالإضافة إلى تمكين مواقع التواصل الاجتماعي الشركات الإشهارية من بيانات منخرطيها وتفضيلاتهم واختياراتهم، التي يتم على ضوئها قصفهم بدعاية تجارية مركزة ومصممة تبعا لتفضيلاتهم.

هذا غيض من فيض فقط، لا يعطي ملامح دقيقة، بقدر ما ينبه إلى التغييرات الجوهرية التي يحدثها الإعلام الجديد في القيم الأساسية التي تقوم عليها إنسانية الإنسان.

ثانيا: تحولات القيم التواصلية

نتوهم في الغالب أن الإعلام الجديد هو مجرد وسيلة يوظفها البعض للتأثير في آخرين، أو يستخدمها لدوافع ذاتية مثل الترفيه والتثقيف والتواصل؛ في حين إن الإنترنت بكل تطبيقاته التي يشكل الإعلام الجديد أبرزها، يُبَنيِنُ الحياة الاجتماعية، وعلى حد تعبير “بيير ليفي”: ” ليست الإعلاميات مجرد أداة، بل هي تقنية منظِمة للبنيات. فهي تحاول أن تغير تشكل الزمان والمكان الاجتماعيين، والحياة اليومية، تبعا للتوازنات الجيوبوليتكية”[9].

فالإعلام الجديد يعيد تشكيل جغرافيا العلاقات الاجتماعية، ويعيد تأثيثها وفق قيم وأولويات جديدة؛ فالاتصال يستغرق الإنساني، ويعيد تشكيله. وفي مجتمعات الاتصال، نتحدث عن ” الإنسان الاتصالي” (Homo Communicant) وهو على رأي “فيليب بريتون” (Philippe Breton): “كائن من دون داخل ومن دون جسد، كائن متوجه بكليته نحو الاجتماعي، وهو لا يوجد إلا عبر المعلومة والتبادل، في مجتمع أصبح شفافاً بفضل آلات الاتصال”[10].

أبرزنا سابقا أن إنسان الاتصال يتحدد أساسا بوجهه الاجتماعي: أي باندماجه في السيرورة الاتصالية، وهويته أيضا تتحدد باعتباره وسيطا لسريان المعلومة… لذا أوجز فأقول إن الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي خصوصا تشكل تدريجيا عالما اتصاليا منغلقا، يصبح فيه الاتصال أهم من مضمون الاتصال، ضمن أفق قيم نفعية وأداتية لا تنشغل بالبعد الأخلاقي، وهذا التحول التدريجي، يظهر من خلال كثافة الاتصال التكنولوجي عن بعد بمختلف قنواته التكنولوجية وأشكاله، مقابل تراجع الاتصال الإنساني المباشر.

في عام 1957، كتب الأديب الأمريكي الكبير إسحاق أزيموف، روايته الشهيرة: “في مواجهة نيران الشمس”[11]، وهو يحكي فيها عن فرد من الأرض، يريد الاستثمار في كوكب آخر، يختلف فيه نمط العيش بشكل كبير، ويحاول اكتشاف النمط الاجتماعي للكوكب الجديد، بمساعدة “صديقه” الروبوت الآلي. وفي حقيقة الأمر، يحاول أزيموف أن يصف لنا من خلال روايته مسارين محتملين لتطور الحياة البشرية: فحينما يتحدث عن الحياة على الأرض، يصف عالما مكدسا بالبنايات الضخمة التي تكتسح الطبيعة، تضخم سكاني مهول، وخوف مبهم من الطبيعة يدفع الجميع إلى إغلاق نوافذهم في وجه أشعة الشمس.

في المقابل، يبرز نمط الحياة الجديد في كوكب “Solaria”: عالم يعيش فيه الناس بأعداد قليلة، حيث لا توجد مدن، بل يعيش كل فرد وحيدا في أملاكه الخاصة، وتحيط به الروبوتات التي تخدمه. وحيث لا حاجة للقاء الجسدي الذي أصبح محرما: فيمكن لأي فرد من سكان “Solaria” أن يتناول الطعام أمام محدثه، ويدخل معه في حوار حميمي دون أن يكون جالسا معه بشكل فعلي، وذلك من خلال وسائط اتصالية توفر صورا ثلاثية الأبعاد للشريك، إضافة إلى محيطه المباشر، وحتى الأطباء أصبحوا يجرون الفحص الطبي على مرضاهم من خلال هذه الوسائط.

ودون الإطالة في سرد أحداث الرواية، أو الخوض في تحليلها، نذكر بأن كاتبها حاول أن يفكر في الحضور المتزايد لآلات الاتصال وتقنياته في حياتنا، ويستشرف انعكاساته المحتملة على الروابط الاجتماعية.

وفي عصرنا الحالي، أصبحنا نتبادل كما هائلا من المحتويات التواصلية، ما بين رسائل نصية قصيرة (sms)، واتصالات هاتفية، وتعليقات على محتويات مواقع التواصل الاجتماعي، واستحسانات لما يروج فيها (j’aime) أو مشاركات لها (partager)… لكن في المقابل، تراجعت الزيارات العائلية وجلسات الأهل والأصدقاء المتحلقين حول كؤوس الشاي الساخن.

وأذكر أنني كنت أتلقى صبيحة يوم العيد، عشرات الرسائل النصية من الأهل، والأصدقاء وزملاء العمل، تهنئني بالعيد؛ أما رسائل التهنئة الإلكترونية، فتنطلق قبل العيد، وتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي ببطاقات التهنئة الجميلة الأشكال والألوان، وكأنها نوع من إبراء الذمة، والتكفير عن ذنب عدم الزيارة المباشرة.. فالكل أصبح يلقي اللوم على الوقت، الذي لا يكفي لصلة الرحم واللقاء المباشر، دون أن نفطن إلى أن المجتمع يخوض تحولا من نوع جديد، يغذيه الحضور المتزايد لتكنولوجيا الاتصال: فقبل وسائل الاتصال الحديثة، كان الموظف البعيد يستغرق يوما أو يومين في السفر، ليشارك أهله فرحة العيد ثم يغادر صوب عمله في مساء اليوم نفسه!

وقبل حوالي أربع سنوات، أذكر إشهارا تلفزيونيا كان يبث بكثرة حينها، عن خدمة جديدة لتحويل الأموال من خلال الهاتف المتنقل، وأذكر أن حِرفيا (أعتقد أنه نجار) كان يقول ما معناه أنه كان يسافر صوب والديه مرة كل شهر، وأنه الآن -بفضل الخدمة الجديدة- يحول لهم النقود بكل سهولة، وفي أي وقت. وينتهي الإشهار بهذا الحل السحري، لكن صديقنا النجار، لا يكمل أبدا باقي الجملة: “وبالتالي، فلا داعي للسفر وزيارة الوالدين”، وكأن صلات التراحم تختزل في بعدها الوظيفي، فتنحصر في إعطاء مبلغ مالي، أو تقديم دعوة أو غيرها…

وتصاعد الأمر ليشمل مختلف نواحي الحياة اليومية: فخدمات الهاتف الذكي تتم كلها بشكل آلي، أو عن طريق الاتصال بخدمة الزبائن الأوتوماتيكية، وكذلك حجوزات السفر بالطائرات أو القطارات، أو استخراج جواز سفر بيومتري، وأصبحنا لا نتوجه إلى الإدارات والمصالح إلا في حالات عدم الرضا: فيتكدس الناس في أقسام الشرطة، والمستشفيات، وشبابيك الشكايات، وكما يلاحظ أحد الكتاب الفرنسيين: فإن المرضى الذين يعودون إلى الطبيب مرة ثانية هم أولئك الذين لم يتماثلوا للشفاء، وأنه من النادر أن يعود المريض مرة ثانية إلى الطبيب لشكره على براعته. كما يكتفي الفرد بالاطمئنان على أهله هاتفيا، لكنه يضطر إلى الحضور الفعلي في حالة الوفاة أو المشاكل العائلية.

وهذه زاوية سلبية أخرى لتراجع التواصل المباشر، إذ يرتبط الاتصال الإنساني الفعلي بحالات الفشل أو عدم الكفاءة، فالفرد لا يزور مصلحة أو إدارة إلا لوضع شكوى. كما لا يغنيه الاتصال بالأهل عن الحضور الفعلي في حالات الوفاة.. في حين، يرتبط النجاح والفاعلية بوسائط الاتصال التكنولوجية، فالهاتف والإنترنت كافيان لإدارة الأمور بكفاءة.

رغم أن الحضور الجسدي مفعم بالدلالات الإنسانية والعاطفية، التي تشيع الألفة ولو في غياب الكلمات. وأحيانا يكون الصمت الإنساني، أكثر بلاغة ودفئا من الاتصال الآلي.

بالإضافة إلى ما ذكرنا؛ يطرح الإعلام الجديد حالات اتصالية مستحدثة، بوضعيات تواصلية جديدة وغير تقليدية، فالمرسل ليس بالضرورة مؤسسة إعلامية كما هو الشأن في الإعلام التقليدي، بل قد يكون مؤسسة إعلامية أو رسمية كما قد يكون فردا عاديا، أو شركة تجارية… كما أن المستقبل في الإعلام الجديد ليس هو الجمهور، بما خليط غير متجانس يجمع بين كل الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية… إنه جمهور نوعي، يشترك في خصائص معينة تشكل لديه القابلية لتلقي محتوى معين.

هكذا يشمل المرسل أنواعا عديدا ومختلفة، ما بين المؤسسات الرسمية، والمؤسسات الإعلامية، والشركات التجارية، كما يشمل تنظيمات المجتمع المدني التي تمتلك واجهة إعلامية رقمية… كما قد يكون المرسل مجرد فرد عادي..

ولأن وظيفة إنتاج المحتوى في الإعلام الجديد لم تعد حكرا على المؤسسة الإعلامية، بل أصبحت معممة على الأفراد والمؤسسات، فيمكننا الحديث عن تحرر الاتصال كأبرز التحديات القيمية التي يواجهها الإعلام الجديد؛ إذ أصبح الاتصال متحررا من كل القيود التي تعيقه وتكيفه تبعا لإكراهات الرقابة الذاتية التي تمارسها المؤسسات الإعلامية، خصوصا في ما يتعلق بالجانب السياسي. كما نستطيع أن نلمس تحررا نسبيا من الإكراه التجاري، والذي وإن كان حضوره الإشهاري قائما بشكل من الأشكال، إلا أنه لا يصل إلى درجة الابتزاز و”الإجبارية” التي يظهر بها في الإعلام التقليدي.

غير أن لقيمة التحرر هذه وجها آخر؛ إذ يتحرر المرسل أيضا من كل إطار أخلاقي أو قانوني أو أدبي، فيمكن له أن ينتج محتوى إعلاميا إباحيا، أو يهاجم الثقافات والديانات الأخرى أو الثوابت الوطنية مثلا، كما يمكنه أيضا يقدم محتوى كاذبا، أو منحولا…

فالتحدي المطروح هنا، كيفية الاستفادة من هامش الحرية الواسع الذي ينتج في إطاره المرسل المحتوى الإعلامي والحفاظ عليه، دون أن يعني ذلك المساس بأي شكل من الأشكال بمصداقية المحتوى الإعلامي أو حقوق المستقبل؟

أما المستقبِل في الإعلام الجديد فيبرز كذات فاعلة، إنه مستقبل مستقل عن هيمنة المرسل، يمكن له أن ينتقي ما يشاء من المحتويات الإعلامية، وما يشاء أيضا من المصادر.. كما أنه تفاعلي، يساهم في صنع المحتوى ويشارك في تشكيله وبنائه.. وحينما نتحدث عن التفاعل بين المرسل والمستقبل، تختفي الحدود بينهما، ونتحدث فقط عن المتواصلين في الإعلام الجديد، وهذا ما يشرحه محمود خليل بقوله: “ما يثيره دخول الحاسوب إلى عالم الاتصال، هو تحول العملية الاتصالية إلى حالة تبادلية بين المرسل والمستقبل، بمعنى أن الاتصال هنا سيكون ذا اتجاهين، حيث تزداد درجات التفاعل بين طرفي العملية الاتصالية، وسيعلو دور المستقبل في هذه الحالة ليس فقط إلى الدرجة التي يستطيع معها أن يفسر، أو يطلب المزيد من المعلومات حول وحدة إعلامية معينة، بل سيصل الأمر إلى تحول المرسل العادي في حالة الاتصال التقليدي إلى منتج للمادة الإعلامية”[12].

هنا نتساءل عن أي قيم تواصلية تجمع المتواصلين في الإعلام الجديد؟ هل هي قيم التواصل والتعارف المؤطرة بالسياق الإنساني؟ أم أنه تواصل شكلي فقط، لا يرقى إلى المأمول في التواصل الإنساني الذي يقوم على قيم التعارف والتعاون والتكامل؟

أما الركن التواصلي الثالث، وهو الرسالة فتختلف أهميته تبعا لشكل الاتصال القائم، ففي الإعلام الجديد الإخباري، يحظى محتوى الاتصال بأهمية كبيرة، لكن مع اختلاف جوهري عن الاتصال التقليدي، إذ لا يتعلق الأمر هنا بالخبر وما يصاغ حوله من أدبيات في العادة، بل بالمعلومة التي يتم تبادلها دون توقف. للتأكد من ذلك، نقارن بين حدث ما يتم تغطيته تلفزيونيا، تظهر بصمة القناة وملكيتها للتغطية بشكل واضح، هكذا تختلف التغطيات نسبيا تبعا لكل قناة تلفزيونية حسب عمل مراسليها ووكالات الأنباء التي تتعامل معها. أما تغطية الإعلام الجديد لنفس الحدث، فتكشف عن جولان نفس المعلومات عبر مواقع إخبارية متعددة ببعض التمويهات الغير احترافية في الغالب. هنا تطرح إشكالات وتحديات التوازن بين صدق المعلومة وحق تداولها من جهة، وحقوق الملكية الفكرية من جهة ثانية.

أما في مواقع التواصل الاجتماعي، ومواقع تبادل الصور والفيديوهات، فالأمر يختلف، إذ يتم إعلاء اللهو والترفيه إلى أقصى درجاته… إنه مجال يوصف بعبارة مقتضبة ودالة: اتصال بدون مضمون، حيث تجد نفسك في بعض الأحيان قد قضيت مدة طويلة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، وأنت تشارك مضمونا حينا، وتثمن مضمونا آخر حينا آخر؛ ثم تقوم في الأخير مع إحساس صارخ بأنك لم تفعل شيئا.

فلا يهم أن تتبادل محتوى إيجابيا، أن تتواصل فعليا مع أصدقائك ومعارفك وتتبادل معهم الأفكار والمشاعر، بل الأساسي أن تكون مرتبطا بالموقع (online)، فتجامل معارفك بالضغط على عبارة (j’aime) على كل ما يتداولونه، وأحيانا تعلق ببعض عبارات المجاملة والتي قد تكون بالعربية العامية…

إنه تواصل بلا مضمون، يستهلك الوقت فقط، ويدعم روابط وهمية مع أصدقاء افتراضيين، لا هم بالأصدقاء الفعليين الذي يعول المرء عليهم في تقلبات الدهر ونوائبه، ولا المرء استنفذ وقته في التعرف إلى أصدقاء حقيقيين في العالم الواقعي واستمتع معهم بدفء الحياة الحقيقية وحلاوتها.

من جهة أخرى، تبرز اقتراحات التفاعل مع المحتوى في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” حالة جديرة بالتأمل: فأنت بين خيارين: “أحب” المحتوى، أو “لا أحب” المحتوى؛ مما يطرح إشكالات قيمية حقيقية، فأحيانا يتم تبادل محتوى مأساوي، لتجد نفسك بين موقفين: “أحب” أو “لا أحب”؛ وحينما تختار موقف “أحب” يبدو المعنى غريبا، هل تحب المأساة الإنسانية المعروضة أمامك، وكأنك تستمتع بعذاب الآخرين؟ أم أنك تحب اهتمام المرسل بتلك المأساة وعرضه لها؟

والأمر ليس بهذه البساطة، للأسباب التالية: قد يقول البعض، هناك خيار “التعليق” على المحتوى حيث يمكنني أن أبرز رأيي، وهذا صحيح، إلا أنه لا يخفي أن “الفيسبوك” من حيث إبداء موقف، يعطيك خيارا بين موقفين اثنين: وهي نفس الثنائية التي تحكم العقل الغربي منذ أن وضع أرسطو منطقه ثنائي القيم، وهي نفس الثنائية التي دفعت أيضا الرئيس الأمريكي السابق “بوش” الإبن، ليعلن في أعقاب الهجوم الإرهابي على برج التجارة العالمي في الولايات المتحدة، أنه على دول العالم أن تختار بين أن تكون مع أمريكا أو ضدها، وكأنه لا توجد حالة ثالثة لدول مسالمة، تختار فقط أن تهتم بشأنها الخاص!

إنه منطق إقصائي يكرسه فينا “الفيسبوك”، كما يكرس فينا نوعا من الضبابية في قيمنا، والاستهانة بمآسي الآخرين؛ وليس هذا من قبيل المبالغة، بل من الثابت علميا أن تصوراتنا حول العالم، هي تصورات ذات بنية لغوية استعارية، وبالتالي فالتعبير اللغوي عن المواقف، يؤثر لاشك في تمثلنا الذهني لها على مستوى اللاوعي، هكذا يشير الباحثان “جورج لايكوف” و”مارك جونسون” إلى أنّ “التصورات التي تتحكم في تفكيرنا ليست ذات طبيعة ثقافية صرفة. فهي تتحكم، أيضاً في سلوكاتنا اليومية البسيطة بكل تفاصيلها. فتصوراتنا تُبَنين ما ندركه [أي تضفي عليه بنية]، وتبين الطريقة التي نتعامل بها مع العالم، كما تبين كيفية ارتباطنا بالناس(…) وإذا كان صحيحاً أن نسقنا التصوري، في جزء كبير منه، ذو طبيعة استعارية؛ فإن كيفية تفكيرنا وتعاملنا وسلوكاتنا في كل يوم، ترتبط بشكل وثيق بالاستعارة”[13].

خاتمـة

يبدو أن تأثير الإعلام الجديد يمتد ليشمل قيم المجتمع أيضا، بتعزيزها ودعمها، أو بتعديلها أو إلغائها نهائيا، أو بإبداع قيم جديدة وإحلالها في المجتمع. هذا يقتضي الانتباه إلى هذه المستويات من تأثير الإعلام الجديد على القيم، فننتبه إلى مقدار التغيير والتعديل الذي تحدثه تكنولوجيا الإعلام الجديد على القيم الاجتماعية السائدة، ومثال ذلك، التحولات التي تطرأ على قيم المناسبات الدينية من صلة الرحم وتبادل التهنئة، والتي أصبحت تبتعد تدريجيا عن التواصل الإنساني المباشر، الذي يتم تعويضه بتبادل التهنئة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والرسائل الهاتفية النصية: إنه مجال قيم يخضع للتحول.

قيمة الصداقة نفسها تتعرض للتحول؛ فشتان بين الصديق بمعناه التقليدي، الذي يلازمك ويؤنسك وتحرص على لقائه بشكل دوري؛ والصديق في موقع التواصل الاجتماعي، فالصديق الثاني قد يسليك ويؤنسك بل ويفيدك في أحيان كثيرة، لكنه أبدا لا يدعوك لبيته للتعرف إلى أسرته ومشاركته في وجبة غذاء، كما أنك لن تجده إلى جانبك في محنة أو مصيبة: يزورك في مرضك، ويقرضك في أزمتك المالية.

لست هنا بصدد تقديم أمثلة عامة تخاطب مشاعر القارئ فقط، بل أحذر بشكل جدي من تحولات اجتماعية عميقة تطال المجتمع المغربي، لها أسباب متعددة، وما الإعلام الجديد إلا أحد المساهمين فيها: فالصديق “الافتراضي” في الإعلام الجديد، هو النقطة الأخيرة ربما، التي تغلق دائرة تحول قيم التضامن الاجتماعي من صيغه المألوفة المستمدة من الدين والتقاليد الثقافية، إلى أشكال تضامنية جديدة ومعاصرة؛ فحينما يغطي التأمين على المرض وعلى الوفاة كل عسر مادي محتمل بسبب مرض مفاجئ أو وفاة معيل الأسرة، وحينما توفر القروض البنكية الاستهلاكية خدماتها بسرعة قياسية، تستلم فيها القرض في نفس اليوم أحيانا، وحينما يمكنك إحضار جزار متخصص لذبح أضحيتك وإعدادها، وحينما يوفر لك موقع إلكتروني كل أخبار العالم ومعينا لا ينضب من التسلية… حينها، يبدو الصديق الافتراضي على أحد مواقع التواصل الاجتماعي أكثر من كاف!

كما أن بعض دوائر الانتماء التي تشكل مستويات متعددة من الهوية بدأت تختفي لتعوضها أشكال هوياتية جديدة، وهذا ما يقتضي منا الانتباه إلى القيم التي بدأ الإعلام الجديد في تقويضها. أمثل لهذا الجانب بقيم الجوار، حيث ساهم التغيير العمراني والاتجاه نحو البناء العمودي، في خلق مجموعة من القيم التعاقدية التي عوضت القيم التراحمية للجوار، فتجد الشخص لا يعرف جاره في العمارة التي يقطنها، ولا يتجاوز تواصله معه ابتسامة مجاملة سطحية حينما يلتقيان في المصعد أو مدخل العمارة، لكنه في المقابل يدخل في دوائر انتماء متعددة ومجموعات “فايسبوكية” تجمعه بأشخاص يشتركون معه في اهتمامات معينة، لكن تفصلهم مئات أو آلاف الكيلومترات، إن الهوية المشتركة في الإعلام الجديد جد غريبة: قد تضيق ولا تتقبل الجار القريب الذي يشاركك الدين والثقافة واللغة والوطن والمدينة… وغيرها من دوائر الانتماء؛ لكن تلك الهوية تتسع لتحتضن آخرين من بلاد وأصقاع شتى! إن القيم التي تقوم عليها الهوية تخضع لتحول عميق بدورها.

حاولنا من خلال كل الأمثلة السابقة أن ننبه إلى مسألة بالغة الأهمية، يغفل عنها الكثيرون حينما يتناولون تأثير الإعلام الجديد على القيم: إن التأثيرات السلبية لبعض محتوى الإعلام الجديد على القيم، لا تصل إلى أهمية وخطورة تأثير شكل التواصل عبر الإعلام الجديد على القيم الاجتماعية والإنسانية عموما.

لذا فنحن في حاجة إلى مجموعة من الدراسات والأبحاث التي تدرس كل القيم الجديدة والممارسات الاجتماعية المستحدثة، التي تتسلل خلسة إلى حياتنا الاجتماعية، فتؤسس لممارسات وقيم وتفضيلات جديدة وأحيانا ثورية، دون أن ننتبه لها. لسنا هنا أمام إشكالات ترتبط بالمحتوى (على أهميته)؛ بقدر ما يتعلق الأمر بالأشكال وعادات الاستخدام. ولعل “ميشيل مافيزولي” يلخص هدف هذه الصفحات بدقة حين يقول: “وإذن، فإننا بانتباهنا “لعلامات الزمن”، وبمعرفتنا تأويل كل هذه الأحداث العارضة ذات الطابع السديمي، والشحنة الانفعالية العظيمة التي تشكل الحياة اليومية، يمكننا أن نكون قادرين على إدراك قيمة الأسلوب الجديد للحياة الذي ينمو خلسة في جلدة الجسم الاجتماعي”[14].

__________

* دكتور متخصص في الإعلام والاتصال.

أستاذ التعليم العالي مساعد، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، فاس.

[1] – لفهم العلاقة بين السيبرانية والإعلام الجديد، أنظر: هشام المكي، “الإعلام الجديد وتحديات القيم”، طوب بريس، الرباط، المغرب، ط/1، ديسمبر 2014.

[2] – جوست فان لوون، تكنولوجيا الإعلام: رؤى نقدية، ترجمة شويكار زكي، مجموعة النيل العربية، مصر، ط/1، 2009، ص: 164-165.

[3] – Philippe Breton ; L’utopie de la communication : Le mythe du village planétaire. Paris, La Découverte, 1997, p : 52.

[4] – Norbert Wiener ; Cybernétique et société, Paris, UGE 10/18, 1971, p : 28.

[5] – Philippe Breton ; L’utopie de la communication, p :50.

[6] – نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات الحلول، الجزء الأول، سلسلة عالم المعرفة، عدد 369، نونبر 2009، ص: 122.

[7]– Norbert Wiener ; Cybernétique et société, p : 173.

[8]– Philippe Breton ; L’utopie de la communication, p : 98.

[9] – بيير ليفي، ميتولوجيا، سلسلة ضفاف، سلسة تعريبات يشرف عليها الدكتور محمد سبيلا. الكتاب الخامس عشر: إشكاليات الفكر المعاصر، ترجمة محمد سبيلا، ط/1، 2009، ص: 217.

[10] – Philippe Breton ; L’utopie de la communication, p :50.

[11] – أنظر ترجمتها الفرنسية: (Issac ASIMOV, Face aux feux du soleil ; J’ai lu, Paris, 1970.)

[12] – محمود خليل، الصحافة الإلكترونية: أسس بناء الأنظمة التطبيقية في التحرير الصحفي، القاهرة، العربي للنشر والتوزيع، ط/1، 1997، ص: 33.

[13] – جورج لايكوف ومارك جونسن، الاستعارات التي نحيا بها، ترجمة: عبد المجيد جحفة، المغرب: دار توبقال للنشر، ط/1، 1996م، ص: 21.

[14] – ميشيل مافيزولي، تأمل العالم: الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية. ترجمة فريد الزاهي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، سلسلة الترجمات، الرباط، 2005، ص: 125.

شارك عبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *