الشباب ومسألة الهوية الدينية
- Post by: mustapha elalaoui
- 4 يوليو 2020
- No Comment
دة. حنان بوكطاية
مقدمة
في الحس المشترك غالبا ما يتم عرض مسألة العلاقة بين الدين والشباب بشكل متناقض، باعتبار أن فترة الشباب مرحلةٌ عمرية تتميز بعدم الاستقرار الذهني وتغير الانفعالات، ومن ثم قد تتعرض المواقف والآراء للتحول والتغير بفعل التفاعل أو الاختلاط بالناس. فلماذا يختار البعض اللجوء إلى الدين؟ كيف يعيشون التجربة الدينية؟ وما هو المعنى الذي يقدمه الشباب للهوية الدينية؟ ماهي الهوية الدينية؟ أهي شيء آخر غير الدين؟ أليست الهوية الدينية وهما يخفي وراءه الحقيقة الواحدة؟
قبل معالجة هذا الموضوع من اللازم تحديد كل من مفهومي الشباب والهوية؛ بحيث نصطدم مسبقا بعدم إمكانية إيجاد معنى واحد ومحدد لهما. من الصعب جدا إعطاء قراءة واحدة للشباب؛ لأن المفهوم يوفر تنوعا في القراءات والأبحاث والتصورات التي أظهرت التناقض في تناول مسألة الشباب من جهة، والدفاع عن بعض القيم والإيديولوجيات، وعدم تحديد مسافة بينهما من جهة أخرى.
كثيرا ما يرتبط تعريف الشباب بفئة عمرية. بالنسبة للدراسات السوسيولوجية الشباب يتم تحديد هذه الفئة من 15 إلى 25 سنة[1]. في جوابه عن سؤال ما هو الشباب؟ متى تبدأ مرحلة الشباب ومتى تنتهي؟ يقول بيير بورديو “إن جواب السوسيولوجي هو التذكير بأن التقسيم بين فئات السن يبقى مسألة تعسفية تذكرنا بمفارقة باريتو: كما لا يمكننا أن نعرف متى تبدأ الشيخوخة، ولا نعرف متى تبدأ الثروة. في الواقع الحدود بين الشباب والشيخوخة في جميع المجتمعات قضية سيطرة وإعادة إنتاج السيطرة، بحيث يتمكن الكبار من الهيمنة على المكانات الاجتماعية، ويظل الشباب خاضعا لهذه السلطة المهيمنة على القرارات. إن مصطلح الشباب ارتبط تاريخيا بالسيطرة والعنف والقوة، وعدم تأهيل الشباب للخلافة أو المسؤولية[2].
الشباب بالنسبة لبارسونز (1942-1955)[3] لا يقتصر على ممارسة الأنشطة النمطية، بل هو نموذج إنساني موسع، يعبر عن أسلوب من الحياة ناتج عن توترات وضغوطات مع الكبار، إلا أن هناك صعوبات تعيق تعريف الشباب منها: طول مدة الدراسة (إذ في هذه الفترة يكون الشاب مطالباً بإظهار المسؤولية داخل المؤسسة وخارجها)، وبنية الأسرة النووية، وتناقص حجم الأسر، وغياب الأدوار المنزلية، وتركيز العلاقات داخل الأسرة، والحرية في مجال الممارسات الجنسية، واستقلال العلاقات الاجتماعية، وإضفاء الطابع المؤسسي في المجتمعات.
بينت الأبحاث الاجتماعية المعاصرة[4] أن الدين مكون أساسي من مكونات الهوية الثقافية للشعوب ولا يمكن معالجة إشكالية الهوية الدينية في كثير من المجتمعات الحديثة والمعاصرة دون معالجة القيم الدينية. وبرهن علم الاجتماع المقارن على أن الدين لا يعكس فقط نظام المعنى الذي يشكل تاريخ مجتمع ما، بل إنه يصنع الهوية الفردية والوضع الاجتماعي التاريخي للمجتمع[5].
تؤكد الدراسات حول علم الاجتماع الديني (خصوصا حول المهاجرين المسلمين بفرنسا وبلجيكا)[6] التي تناولت مسألة الهوية واندماج الشباب المسلم في هذين البلدين الأوربيين، أهمية المرجع الديني عند هذه الفئة، وتتنوع درجة الارتباط بالديني حسب الأوضاع الاجتماعية للشباب المنتمي، إذ لا تبدو الهوية الدينية مركزية إلا في وضعية المواجهة أو المقارنة مع المجتمعات الأصلية، حيث تشتد هذه المركزية الدينية وتتحرك[7].
يعتبر الدين مرجعية مهمة للهوية[8]؛ فتأثير الديني أساسي في بناء الهوية لدى الشباب، ويقترح Hervieu Léger أربعة أبعاد نموذجية لعملية تحديد الهوية الدينية وهي: المجتمع، والأخلاق، والثقافة، والعاطفة. يرتبط البعد الاجتماعي بالدلالات الاجتماعية والرمزية التي تحدد بحدود جماعة دينية، وتسمح بالتمييز بين أولئك الذين هم متدينون، أو الذين ليسوا متدينين، كما يرتبط هذا البعد بالعضوية في الجماعة، وقبول شروط الانخراط فيها.
ويتمثل البعد الثقافي في قبول الفرد للقيم الدينية التي يحملها تقليد خاص، ويشمل جميع العناصر المعرفية والممارسات الرمزية التي هي ميراث تقليد معين. هذا التراث الثقافي يتركب من المعارف والتمثلات وطرق التفكير والعادات المنقولة عبر الأجيال.
أما فيما يتعلق بالبعد العاطفي، فهو يقصد بها التجربة العاطفية المرتبطة بالهوية، ويشير بِعبارة “الشعور الجماعي بالانتماء إلى النحن” إلى الانتماء إلى الشعائر الدينية، والمشاركة في الأنشطة التي تشرف عليها الجماعات الدينية. في حين أنَّ البعد الأخلاقي يتضمن المعتقدات والممارسات المرتبطة بالأشياء المقدسة، والتي تُوحد في نفس الوقت الجماعةَ الأخلاقية[9].
إن استعمال مفهوم الهوية في العلوم الإنسانية كان من قبل أعمال إيريك إيريكسون في سنوات الخمسينات، وانتشرت بعد ذلك على نطاق واسع ابتداء من الستينات (هالبيرن، 2009)، ومع ذلك ورغم هذه الأعمال التي اهتمت بالهوية فلا يزال هناك إشكال في توحيد المعنى. ومن بين المفاهيم الرئيسية المقترحة في علم اجتماع الهوية البعد الذاتي (الهوية الشخصية) والبعد الموضوعي (الهوية الجماعية)[10].
المسألة الدينية بين الممارسة والتنظير
إن المسألة الدينية لم تعد مجرد ممارسة الطقوس، أو التخلي عنها، بل أصبحت تمثل ظاهرة سياسية واجتماعية تتمحور حولها طبيعة السلطة ونوعية الدولة. هل يمكن أن يصبح الدين مقولة نظرية اجتماعية لفهم العلاقات الاجتماعية؟ وما هي الأشكال التي يمكن أن يأخذها التغيير الديني في تمثل الشباب المهاجرين؟[11]
لقد أولى ابن خلدون عناية كبرى بالظاهرة الدينية، لما تؤديه من دور في تثبيت دعائم العمران البشري، فهو يرى أنَّ “كل دولة ونظام حكم لا يقوم على عصبية أو على دعوة دينية؛ فإن مصيرها هو الهلاك والاندثار، ذلك لأن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة”. وقد تحدث ابن خلدون عن التدين في البوادي والحواضر، وقال إنَّ أهل البوادي أكثر تشبثا بالدين بسبب فقرهم وتقشفهم: “اعلم أن أثر الخصيب في البدن وأحواله، يظهر حتى في حال الدين والعبادة، فتجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة أحسن دينا وإقبالا على العبادة من أهل الترف والخصيب”[12].
وترى الدكتورة رحمة بورقية[13] أن تناول الظاهرة الدينية من منطلق العلوم الإنسانية والاجتماعية، يقتضي الحديث عن الفرق بين الدين من حيث هو إيمان وعقيدة، يدخل المؤمن في الوجدان والعاطفة، والظواهر الدينية بصفتها ظواهر مجتمعية يعيشها الناس، وينتجون حولها طقوسا ورموزا، ويضمنونها دلالات يتم تداولها في المجتمع، ويفصح عبرها المجتمع عن منظوره للنظام الاجتماعي وللعلاقات الاجتماعية وللمعايير التي يجب أن تسود فيه.
إن المقاربة العقائدية تضعنا في مستوى الإيمان الذي إذا ما أُخذ في أبعد حدوده، ومن الداخل؛ فإنه لا يحتاج إلى تفسير. في حين أن المقاربة الثانية تقحمنا في مستوى المعرفة والملاحظة والفهم والتفسير، مع إبراز منطق الأشياء وفهم وظيفة الدين ودلالاته في المجتمع. وكثيرا ما يتم الخلط بين المستويين والمقاربتين.
من منظور العلوم الاجتماعية لا تكون الظاهرة الدينية، أو المذهب الديني أحسنَ من الآخر، وإنما كل معتقد إنساني وجب التعامل معه وتفسيره في أبعاده ووظائفه النفسية والاجتماعية والسياسية وفي منطق خطابه.
إن العلوم الاجتماعية تتعامل مع كل أشكال التدين والممارسات الدينية من حيث هي ظواهر تتجلى في الطقوس وزيارة الأضرحة أو وضع التمائم للتوسل إلى الله… وهي ممارسات تستحق أن تدرس لإدراك مغزاها ووظائفها بالنسبة للناس الذين يؤمنون بها.
قد تختلف الظاهرة الدينية من مجتمع لآخر، ومن حضارة لأخرى، وقد تشترك بعض الحضارات في بعض الممارسات والطقوس الدينية، وقد تتعدد أشكال التعبير عن الدين حسب الفئات، باعتبار أن الدين ليس مجرد مجموعة من الشعائر والأركان فحسب، وإنما أيضا رؤية للعالم وللمجتمع وللعلاقات الاجتماعية.
من الملاحظ أن الظاهرة الدينية توجد في كل المجتمعات وعبر كل المراحل التاريخية الطويلة وأن الدين والتدين لازم الإنسانية. هناك من الباحثين الأنثروبولوجيين من ميز في مختلف التعبيرات الدينية في المجتمع المغربي بين دين الفقهاء والدين الشعبي، أو ما سماه الأنثروبولوجي إرنست جلنير في كتابه أولياء الأطلس، دين الفقهاء ودين الأولياء[14]. لقد أبرز هذا الباحث في نظريته حول الأولياء أن هؤلاء الأولياء يلبون حاجة البوادي إليهم، ونظرا لكون أهل البادية في أغلبهم ليس لديهم إلمام بالكتاب المقدس، أي القرآن، فهم يتوسطون بالأولياء للتقرب من الله، بحيث كان للأولياء دور كبير في تقريب الدين إلى الذين لا يعرفون القراءة والكتابة.
هؤلاء الصلحاء هم شخوص أحياء أو أموات يعتقد أن لهم درجة خاصة عند الله تجعلهم في وضع يمكنهم من القيام بدور الوسيط بين البشر وعالم الغيب، ومنح البركة لأتباعهم ومريديهم. وعلى أساس هذا التصور، أدى الصلحاء في الماضي أدوارا دينية واجتماعية واقتصادية في مجتمعات الشمال الإفريقي، بصورة عامة وفي المجتمع المغربي بصورة خاصة. فإلى غاية القرن التاسع عشر، شكل الصلحاء والزوايا والطقوس المرتبطة بهم النمطَ المهيمن، وبدون منازع، في الإسلام السائد في مدن شمال إفريقيا وقراها[15].
الشباب وإعادة إنتاج القيم الدينية: زرع النماذج وغياب التجديد
يقول بول باسكون إن تغيير التقاليد الجماعية من طرف الشباب (الذين تتراوح أعمارهم مابين 18 و20 سنة) يجعلهم يدخلون في قطيعة كلية مع المجتمع الذي ينظرون إليه باعتباره صورة للأب. ومع ذلك فبمجرد ما يشكل هؤلاء الشباب كينونتهم الاجتماعية يواصلون نفس الدائرة[16]. هذا المقطع الباسكوني يبرز عملية إعادة إنتاج القيم الدينية نفسها التي تكون سائدة في المجتمع، وهذه العملية تتم بعد خضوعها لتأويلات الشباب، لإعادة بنائها من جديد ربما بقوالب معرفية وقيمية تتخذ صبغة التحولات التي يعطيها الشباب لهذه القيم الدينية. ذلك ما استنتجناه في مقابلاتنا مع الشباب المهاجرين بمدينة سلا وأحوازها[17] في بحثنا حول تصور الشباب القروي المهاجر إلى المدينة لتدين المغاربة وحاولنا إبراز ذلك من خلال السؤال حول:
تمثل هؤلاء الشباب للتدين؟ ومواقفهم من المؤسسات الدينية التي ينتمون إليها؟ هل الهوية الدينية تبدأ من الذات إلى ما هو المشترك، أم العكس؟ وهل هناك إمكانية تجديد العلاقات الدينية وإعطائها فهما آخر غير ذلك الذي يهيمن على ثقافة الأجداد؟
استطعنا أن نستخلص نوعين من التمثلات والمواقف حول التدين لدى المغاربة كما يتصوره الشباب القروي المهاجر. هذه بعض شهادات ندرجها كاملة حتى لا نمس بخطاب المبحوث:
الموقف الأول: يرى مجموعة من الشباب أن التدين يعرف تحسنا في السنوات الأخيرة، “فالناس أصبحوا أكثر اهتماما بالأمور الدينية التي لا تتوقف عند فريضة الصلاة، بل تتعداها إلى حفظ القرآن الكريم وتفسيره ومعرفة دلالاته القصدية، وبطرق عصرية وواعية، وذلك مثل تتبع برامج التوعية الدينية والتردد على المجالس التي تعطى فيها دروس في التفسير القرآني”. ومن بين شهادات الشباب المبحوثين أيضا حول تدين المغاربة نجد هذه التصريحات:
– “أصبح الناس أكثر إقبالا على ممارسة الشعائر الدينية خصوصا الصلاة في المساجد، بحيث نرى نسبة مهمة من الشباب وبشكل متزايد يقبلون على القيام بواجباتهم الدينية ويواظبون عليها”.
– “في نظري وضعية الدين في المغرب عموما في تحسن وتقدم كبير وبطرق عصرية وواعية، نجد أئمة من مستوى دراسي عالٍ يحثون الناس، ويوجهون أفعالهم وسلوكاتهم، كما يقدمون دروسا للناس تهم مباشرة حياتهم اليومية والاجتماعية”.
يتأكد لنا من خلال شهادات هؤلاء الشباب أن الفئة الأكثر تفعيلا وحضورا في المجال الديني هم الشباب، وتغييب فئة الشيوخ التي تظهر الملاحظة العينية أنهم الأكثر ترددا على المساجد وأكثر التزاما بمواقيت العبادة. إن الممارسات الدينية وفق هذا التصور تعترف بحضور الوازع الديني لدى الشباب، وبتحركهم وفق هذا المنطلق، وذلك بتكثيف العبادات وترجمة الديني إلى الفعل اليومي، وبربطهم شعوريا أولاشعوريا بين العقيدة كمبدأ وبين التطبيق العملي. غير أن هذه الرؤية للتدين تحصر التدين في الممارسة والمنظور الشخصي بدون الارتقاء به إلى مستوى الارتباط الروحي بالعقيدة أو الدين.
الموقف الثاني: يعتبر أن التدين بالمغرب يعرف تناقصا “رغم ما يلاحظ من اكتظاظ في المساجد وأعداد المصلين، مقابل ذلك تنتشر ظواهر لا أخلاقية تتنافى مع تعاليم ديننا الحنيف ككثرة الكذب والنفاق والفساد الأخلاقي”. “إن تدين المغاربة يتميز بالاختلاف لكل واحد دينه الخاص حسب ما يتوافق مع مصالحه الشخصية”. يقول أحد الشباب بمدينة سلا “هناك من يتملك الدين ويعتبر نفسه عارفا بقيمه وتعاليمه فينتج عن ذلك تيارات دينية تدعي احتكار المعرفة الدينية”. ويقول آخر “لا مغالاة في الدين ولا نقصان نحن دين الوسطية”. “التدين عند المغاربة أصبح يتناقص، ورغم ذلك لايزال هناك أشخاص متدينون وملتزمون”. حسب تعبير أحد الشباب المستجوبين. يبين هذا الموقف المفارقة اليومية بين القيم الدينية والممارسات الأخلاقية والسلوكية للأشخاص. فغياب الاقتناع الروحي بالديني يـحولُ العبادات إلى ممارسات اعتيادية تخلو من العمق الوجداني والعقلي للدين. إن هذا الحكم الذاتي لا يعدو أن يكون سوى ترجمة لصور الواقع اليومي المتكرر والمستنبط من الأفعال المباشرة للناس، لكنه في نفس الوقت لا يقدم أي حكم على حجم الإيمان لدى كل فئات المجتمع.
يتضح من شهادات الشباب المهاجر أن الديني يتحول في هذا السياق إلى “إيديولوجيا فردية” يستعملها الأفراد وفق إرادتهم الخاصة لإضفاء معنى على وجودهم الخاص، والتموقع اجتماعيا داخل نسق يشعرون أنهم مستبعدون منه ويقعون على هامشه، ولكن ذات الديني قد يتحول إلى إيديولوجيا جماعية يتبناها الأفراد. إن الانتماء المذهبي والعقائدي هو بالأساس يمثل تعبيراً فكرياً وإيديولوجياً للأسر والطبقات الاجتماعية المسيطرة والمهيمنة[18].
الشباب والمؤسسات الدينية
إن جل الأعمال المنجزة في إطار علم الاجتماع الديني، تتناول الظاهرة الدينية كنسق منظم لسلوكات وتمثلات الأفراد داخل المجتمع. يشير في هذا الصدد إميل دوركهايم إلى “أن كل المعتقدات الدينية المعروفة، بسيطة كانت أو معقدة، تمثل خاصية واحدة مشتركة. إنها تفترض تصنيفا للأشياء الواقعية أو المثالية التي يتمثلها الأفراد عبر مستويين أو نوعين متقابلين تتم الإشارة إليهما عموما بمصطلحين هما: المدنس والمقدس”.
إن المقدس والمدنس يشكلان على هذا الأساس عالمين متقابلين، حيث يتميز الأول بالطهارة، والثاني بالنجاسة. ولعل هذا ما يفسر كون مجالات مثل الدين أو الأخلاق المنبثقة عنه، تظل بمنأى عن تأثيرات المدنسين، وتشكل حقل إنتاج المحرمات، ومختلف الإلزامات الموجهة لسلوك الأفراد. من هنا تبدو أهمية الطقوس والشعائر الدينية التي تعكس خضوع الأفراد للعلاقات الاجتماعية الموجودة وتبرز عبر لغة المقدس، قبول الواقع القائم[19].
إذا كان الله واحدا، فإن الطريقة التي يعبد بها متعددة، وإن مجمل التاريخ الديني للمغرب هو تاريخ إخضاع الغرائز لنزعة وثنية لا تكف عن الانبعاث. لهذا تتشبث فئات كثيرة من المجتمع بما في ذلك الشباب بإعادة إحياء هذه النماذج الدينية، وتعتبر الأضرحة والزوايا، مجالات للممارسة الدينية؛ لأنها توفر الارتباط الروحي والوجداني والتقرب من الله عبر وساطة الأولياء والصلحاء[20].
- تعتبر زيارة الأضرحة أحد أشكال التدين:
إن مجتمعات الإسلام ليست مشكلة تشكيلا متجانسا إلى الحد الذي نجد فيها أسلوبا دينيا شائعا بصورة متماثلة وشاملة، فحقائقها وتغيراتها أيضا أكثر تعقيدا مما نتصور وبصورة أعمق، فإن الأفراد لا يغيرون بصورة آلية من النمط الديني، بل يقومون بتبني إستراتيجيات متكيفة وملائمة حسب حاجياتهم في لحظة من لحظات إنتاج المعنى.
يتصف الدين بحركة أكبر فهو متأثر بالتغيرات باعتباره نتاجا تاريخيا. يشكل الدين مثله مثل الثقافة إطارا للإدراك والتفسير، فهو يفترض وجود رموز ومؤسسات التي تجعل هذه الصور والاستعارات في متناول أولئك الذين يلجأون إليها. فالدين إذاً إطار يسمح للأفراد بفهم الحقائق الاجتماعية، ولكن أيضا للتصرف انطلاقا من المدركات التي يتيحها هذا الإطار[21].
من بين الاستراتيجيات الروحية والرمزية تلجأ فئات من الناس بما فيها الشباب إلى زيارة الأضرحة ومباركتها، إذ تعتبر زيارة الأضرحة ممارسة دينية مترسخة في معظم مجتمعات المغرب العربي على الرغم من الخطاب الفقهي المناوئ لها، والذي يرى فيها بدعة تمس جوهر التوحيد الديني للإسلام. ورغم ذلك تستمر هذه المزارات الدينية في استقطاب رواج اجتماعي مكثف يمفصل كافة الشرائح الاجتماعية بأشكال مختلفة وأحجام متفاوتة، تشمل القرويين والحضريين[22].
وتأكيدا لما جاء في أبحاث سابقة حول التمفصل بين الدين والتدين لدى الإنسان المغربي. فقد تأكد لنا[23] أيضا خلال زياراتنا الميدانية لمدينة سلا وأحوازها، ومن مشاهدتنا الميدانية وجود أعداد كبيرة من المزارات والأضرحة والمساجد بالناحية الحضرية من المدينة، مما دفعنا إلى التساؤل حول مدى ارتباط الناس بهذه الأماكن ودرجة التردد عليها، فطرحنا السؤال بالصيغة التالية على عينة من الشباب المتدينين: هل تزور الأضرحة؟ إذا كان الجواب بنعم في تصورك، ما هي الغاية من زيارة مزارات الأولياء؟ ولماذا يلجأ بعض الشباب لمباركة هذه المؤسسات الدينية؟
مجمل الإجابات التي توصلنا إليها تؤكد التردد على بعض المزارات والأضرحة، لأنها تمثل جزءا مهما من الثقافة والهوية الدينية والاجتماعية لهؤلاء الشباب، “إنها أماكن تمنح الإحساس بما هو روحي، وهي أيضا أماكن مقدسة يعبد فيه الله ويقرأ فيها القرآن الكريم.” يضيف أحد الشباب قائلا: “نعيش كشباب مفارقة كبيرة بين ما نحمله في عقولنا وما يلج في صدورنا، فأنا مثلا أعلن أمام أصدقائي وعائلتي برفض مثل هذه المجالات ولكنني في نفس الوقت أشتاق روحيا لزيارتها دون أن تكون لدي غايات محددة”، فيما يقول آخر: “إنها تعطيني شعورا بالراحة النفسية وتعيدني إلى الله لأنني أتمثل هؤلاء الأولياء وسلوكاتهم في التقرب من الله”. ويعبر أحد الشباب السلاوي: “إن زيارتي لبعض الأضرحة تكون بهدف سياحي أو الاستجمام وأحيانا الاكتشاف. إنها جزء من تراثنا وحياة أجدادنا”[24].
نستخلص من هذه الشهادات أن هناك منظومة من القيم والتصورات الرمزية التي ترتبط بقواعد سلوك اجتماعية، تواري خلفها البحث عن تسمية للهوية الجماعية، والانتماء الاجتماعي والديني والعاطفي والمقدس.
إن تردد الشباب على الأضرحة أو الزوايا نوع من النشاط والمشاركة في الأنشطة التي تشرف عليها الجماعات الدينية، عبر ممارسة الشعائر الدينية المؤطرة من طرف مؤسسات دينية مشتركة بين جماعة من المنخرطين.
إن الهوية الدينية للشباب عملية ديناميكية وعملية علائقية، إنها بناء اجتماعي يتدخل في تحديد السلوك الديني والأخلاقي. إن الدين من القضايا الاجتماعية الجوهرية والمصيرية والتي تحاط بسياج من المحرمات والممنوعات، مثله مثل الجنس والسياسة، والمجتمع العربي عموما أكثر حساسية للدين لأنه بؤرة كل القيم التي تحكم السياسة والجنس[25].
- الزوايا:
إن التعبير عن التجربة الدينية لا يكون موحدا حتى داخل دين من الأديان، نظرا لكون الناس يكيفون الدين حسب رغباتهم وحاجياتهم واستراتيجياتهم الفردية والجماعية. ومن هذا المنطلق فالظاهرة الدينية كما تتجلى في المجتمع لها أبعاد متعددة، باعتبار أن الفئات الاجتماعية منحت للممارسة الدينية، عبر التاريخ وفي مجتمعات إسلامية مختلفة، معاني تداخل فيها الديني بالسياسي والاجتماعي والثقافي[26].
تعتبر كل من الزوايا والكتاتيب أشكالاً من المدرسة في النظام التعليمي القديم، وقد مارسا علمَ التربية من تنمية مواهب المتلقي، وميوله وقدراته، وتشجيع نشاطه ومهاراته في إطار الثقافة الأصلية التي كانت تحكم المجتمع وتضبطه.
رغم أهمية الزاوية كمؤسسة دينية واجتماعية، إلا أنها تعرف فراغا في أدوارها التقليدية ومكانتها كما في السابق؛ فالعديد من الشباب المهاجرين لا يرتادونها ولا يكترثون لوجودها حسب تعبير العديد منهم.
- الفقيه:
يمثل الفقيه أو الطالب شخصية مركبة لها أدوار كثيرة يطبعها طابع روحي لهُ أهميته وطقوسيته في الحياة القروية[27]. للفقيه قدرة على الإحاطة بالأحكام تؤهله للبث في مظاهر الحياة الدينية والسياسية والخاصة للفرد. فالفقه يشمل كل القواعد التي تنظم العبادات وتتضمن الأوامر والنواهي فيما يتعلق بالقوانين الخاصة بالأسرة والإرث والملكية وقوانين الالتزامات والعقود في المعاملات.
ويشير ويستمارك[28] إلى أن وظائف الفقيه تتسم بالتعدد، فإلى جانب كونه يمثل الدين ويعلم القرآن وينشر المعرفة الدينية، فإنه يتدخل في مجالات عديدة ومناسبات متنوعة، كحفلات الزواج والمآتم والأضاحي وكتابة الأحجبة الوقائية وغيرها. إن الفقيه مصدر المعرفة الدينية في وسط ينتشر فيه الجهل والأمية.
يحتل الفقيه مكانة مهمة لدى القرويين، إذ يعتبر من الرموز الدينية التي لها وضع خاص في أذهانهم، ففي البادية يلعب الفقيه دورا أساسيا في الحياة الاجتماعية والدينية، فيتم العودة إليه في حل النزاعات والخلافات التي تقع بين أعضائها، ويتم الأخذ برأي الفقيه في الأمور الشخصية والاجتماعية والمشاكل التي تعترضهم في حياتهم[29].
كما يشير إلى ذلك إيكلمان في دراسته للزاوية الشرقاوية، وخلفيات التعايش بين تصورات متناقضة للإسلام، وفي تقديمه للأدوار التي تقوم بها المؤسسات الدينية ببلدان شمال إفريقيا عموما والمغرب خصوصا، يصل إلى استنتاج مفاده وجود تصورين في مختلف بقاع العالم الإسلامي: تصورٌ يرى في وجود وسطاء ما بين الإله والبشر وآخر ينفي ذلك. هذان التصوران في رأيه يشكلان تصورين متساكنين ومرتبطين يوجدان في علاقة توتر وتفاعل في ما بينهما ومع الواقع الاجتماعي، أكثر مما هما تصوران يسعى أحدهما لإقصاء الآخر و إبعاده. إلى أي حد يمكن أن نسقط هذا التأويل في خضم الإيديولوجيات السائدة في وقتنا الراهن؟ هل يمكن أن نتبنى هذا التحليل الاجتماعي للديني في سيرورة التحول المجتمعي التي يعرفها المغرب حاليا؟
إن الهوية الدينية ليست ما يحيل على الأنا أو النحن، بل ما يذهب أبعد من ذلك، إنها لا تتجلى في التوحيد الذي لا يعني فقط الشهادة أو اعتناق هوية الأجداد والقبيلة، بل التوحيد في التوحد الوجداني والروحي بالذات الإلهية. إن وهمَ الهوية الدينية يعيق تحولنا من الهوية الجزئية إلى الهوية الكونية حيث يصبح الإنسان هو المركز بدون استعارات لغوية وإيديولوجية للهوية.
خاتمة
هناك عناصر أخرى تشكل موضوعا لاعتقادات دينية مثل الجن والسحر، مقابل أنماط حديثة من التفكير تضعف هذه الاعتقادات وتعرضها للتآكل. فهل يمكن للشباب أن يخفي هذه الهوية الدينية ويختزلها في مثل هذه الممارسات والاعتقادات؟ هل نستطيع القول بإمكانية القطيعة مع السلوك التقليدي في التعبد، وبلورة تصور جديد في العلاقة مع الله والتعاليم الدينية؟ هل من الممكن الفصل بين الدين والتدين؟
مما سبق معالجته حول مواقف الشباب من هويتهم الدينية وارتباطهم بالمؤسسات الاجتماعية التي تضمن لهم الحماية والرعاية والتأطير؛ فإن مختلف التوجهات الدينية يتم تخطيها أو دمجها في أنماط سلوكية تتنافى وتتجاوز أحيانا إرادات الشباب، لغياب مؤسسات من شأنها أن تلعب دورا رئيسيا في إعادة بناء هذه التصورات والتوجهات واحتوائها.
إن اختيار الشباب الانطواءَ على ذاته، والاستقلال بأفكاره ينم عن ضعف في التواصل بين المؤسسات السياسية وبين الشباب من حيث هي فئة تطمح للتغيير، (ولكنها في نفس الوقت) تعلن عن انتمائها وتشبتها بالمؤسسات التي تضمن لها الحماية والاستمرارية (العائلة، الجماعة، الجمعيات، والأحزاب).
__________
الهوامش:
[1] Renée. B. Dandurand: Jeunes et milieu familial, Collection «Les Classiques des Sciences Sociales», 1986, IRQC, P. 4 et 5.
[2] Pierre, Bourdieu: «La jeunesse n’est qu’un mot», paru dans Les Jeunes et le Premier Emploi, 1978, Paris, Association Des Ages, pp. 520-530. Repris in Questions De Sociologie, Éditions De Minuit, 1984. Ed. 1992 pp.143-154.
[3] Ibid. P 40.
[4] M.B.McGuir, Religion : The Social Context( California : Wadsworth, 1981), 21-29.
مذكور في: المبروك المنصوري، الدراسات الدينية المعاصرة من المركزية الغربية إلى النسبية الثقافية، دار المتوسطية للنشر، 2010، ص 173.
[5] نفس المرجع، ص 173.
[6]Noureddine, Harrami: “Attitudes religieuses chez la jeunesse musulmane”, 2004,Grand Angulaire, AFKAR/IDEES, p 33.
[7] Noureddine, Harrami, 2004, p 33.
[8] Emilie Drapeau, 2016. Ibid.
[9] Emilie Drapeau, 2016, Ibid.
[10] Ibid.
[11] عادل بالكحلة، علم اجتماع الدين عند عبد القادر الجليدي، مجلة إضافات، العدد 28، خريف 2014، ص 85.
[12] عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، الجزء الأول، الدار التونسية للنشر، 1983، ص 130.
[13] رحمة بورقية، الظاهرة الدينية من منظور العلوم الاجتماعية، مجلة الأكاديمية، العدد 23، 2006، ص 308-309.
[14] نفس المرجع، ص 308-309.
[15] ديل ايكلمان، الإسلام في المغرب، ترجمة: محمد أعفيف، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 1989، ص 19.
[16] بول باسكون، زرع النماذج وغياب التجديد، بيت الحكمة، العدد 3، السنة الأولى، أكتوبر 1986، ص 29. حوار نشر بمجلة “لاماليف” LA MALIF، العدد 94 (1978) وأعيد نشره بنفس المجلة، العدد 166 (1985).
[17] حنان بوكطاية، بحث الدكتوراه حول: “الهجرة والتحضر والتحولات الأسرية بمدينة سلا وأحوازها”، تحت إشراف: الدكتور المختار الهراس، السنةالجامعية 2015-2016، بحث غير منشور، هذه الدراسة تنتمي إلى محور علاقة المهاجرين بالمؤسسات، ص 216، (بتصرف).
[18] عادل بالكحلة، مرجع سابق، ص 76.
[19] Durkheim Emile: «les formes élémentaire de la vie religieuse», Paris, Alcan, P 50.
[20] J. Berque, “Structures Sociales du Haut- Atlas”, 2ème Edition, 1978, p 254.
[21] محمد إبراهيم الصالحي، الدين بوصفه شبكة دلالية، مقاربة كليفورد غيرتز، العدد 4،2013، مجلة دفاتر مجلة إنسانيات، وهران، ص 78.
[22] عبد الغني منديب، الأضرحة بالمجتمع القروي المغربي: آليات الوجود والاستمرار في التحولات الاجتماعية والثقافية في البوادي المغربية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2002، ص 14-135.
[23] بحث حول “الهجرة والتحضر والتحولات الأسرية”، تم الإشارة إليه في فقرات سابقة، ص 219-222 (بتصرف).
[24] نفس المرجع، ص 219-222 (بتصرف).
[25] Paul Pascon, « mythes et croyances au Maroc», in trente ans de sociologie au Maroc, 1986, B.E.S.M, n° double 155. 156, Janvier, P 72.
[26] الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع، الطبعة الأولى، 1990، ص 33.
[28] Rahma, Bourqia et Mokhtar El Harras (cordinateurs): Westmarck et la société Marocaine, actes du colloque organisé à Rabat du 20_22 mai, 1992, F.L.S.H, P. 198.
[29] عبد الهادي أعراب، الفقيه كمؤسسة بالمجال القروي: دراسة لتغير مكانة وأدوار فقهاء الشرط بالمغرب، أطروحة لنيل درجة الدكتوراه في علم الاجتماع، السنة الجامعية 2005-2006، ص 144.