
حوار مع الدكتور عمر جدية حول: “الفقه المقاصدي بين الواقع والمأمول”
- Post by: mustapha elalaoui
- 10 يونيو 2020
- No Comment
حاوره:
د.مصطفى فاتيحي، الأكاديمية الجهوية لمهن التربية والتكوين، درعة تافيلالت، المغرب
د. محمد قاسمـي: الأكاديمية الجهوية لمهن التربية والتكوين، درعة تافيلالت، المغرب
بين يدي الحوار:
يمكن وصف الصحوة الأصولية والفقهية المعاصرة بأنها صحوة مقاصدية أعادت للفكر المقاصدي وقواعده مكانه الأصل في مراتب النظر الفقهي والأصولي في علاقتهما بمستجدات ونوازل العصر، وهي صحوة تفتقت بنشر كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي -رحمه الله- وما تلاه من المؤلفات المؤسِّسة على نحو ما كتبه العلامة الطاهر ابن عاشور والأستاذ المناضل علال الفاسي، وما تبع ذلك من الدراسات الجادة والقاصدة، بما في ذلك مشروع تأصيل نظرية المقاصد من خلال جهود هؤلاء الأعلام المؤسسين وغيرهم.
ثم تتابع التأليف لاستخلاص الفكر المقاصدي من مظانه المباشرة وغير المباشرة، وكذا تتبع علائق هذا الفكر في مجالات معرفية متنوعة جامعة بين العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية، مما شكل ثروة مهمة في الباب، تحتاج من الدارسين إلى تقويم واستثمار واستشراف.
ولتكثيف الحديث العلمي في الموضوع وبيان معاقده وقواعده ومنطلقات تثميره واستشراف تأثيره في الفكر والمعرفة والمناهج، نستضيف في هذا الحوار عَلَمًا من أعلام الدرس المقاصدي المعاصر وهو الأستاذ الدكتور عمر جدية حفظه الله.أستاذ التعليم العالي مادة أصول الفقه ومقاصد الشريعة جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس. من مؤلفاته:
- منهج الاستقراء عند الأصوليين والفقهاء، دار الكلمة.
- وأصل اعتبار المآل بين النظرية والتطبيق دار ابن حزم.
الأسئلة:
- بداية دكتورنا الفاضل: كثرت التعريفات لمقاصد الشريعة وتنوعت أنظار العلماء في ذلك، هل لكم أن تطلعوا الباحثين والمهتمين بالتعريف المختار عندكم؟
أما عن التعريف الذي اختاره وأرتضيه لمقاصد الشريعة الإسلامية، فاسمحوا لي قبل الإفصاح عنه أن أقدم تمهيدا أبين من خلاله سبب كثرة التعريفات وتنوعها، فأقول مستعينا بالله: إن منطلق هذه الكثرة، وهذا التنوع أساسا هو اختلاف النظار والباحثين في تقويم تعامل الإمام الشاطبي رحمه الله -باعتباره إمام المقاصد بلا منازع- مع مفهوم المقاصد في كتابه “الموافقات”؛ فمنهم من اعتبر الأمر عنده واضحا، وليس في حاجة إلى صياغته وفق الطريقة المعهودة في التعريفات بشتى أنواعها؛ إما بالحد الحقيقي، أو الرسمي، أو اللفظي… وجعلوا سر ذلك كامنا في كونه رحمه الله تعالى توجه بكتابه “الموافقات” إلى صنف مخصوص من العلماء حين قال: “ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليدوالتعصب للمذهب؛ فإن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض، وإن كان حكمة بالذات. والله الموفق للصواب” (الموافقات:1 /87 ). وبناء على شرط الشاطبي فإن هذا الصنف من العلماء الأصل فيه أنه مدرك لمفهوم المقاصد. وهناك من ذهب إلى القول: إن الشاطبي رحمه الله لم يعرف “المقاصد” بالشكل الذي أشرنا إليه سلفا، وذلك بقصد تكريس “صفة المعهودية” في لفظ “المقاصد” وتقويته حتى ينأى به من دائرة الشك، والأخذ والرد، ويرقى به إلى درجة “العلمية”؛ بحيث إذا ذكرت “المقاصد” لم يفهم من اللفظ غير ما قصده الشاطبي بحكم غلبة الاستعمال. وهناك صنف ثالث ذهب إلى القول: إن الإمام الشاطبي عرف المقاصد لما قسمها إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، وهذا ما استوجب اعتبار القصد الابتدائي، والقصد الإفهامي، والقصد التكليفي، والقصد الامتثالي التعبدي في نيات المكلفين وأعمالهم.
وبناء على ما سبق، فإنني أميل إلى اختيار التعريفات التي استحضرت هذا الملمح الأخير، بعيدا عن قصر مفهوم المقاصد على المصطلحات العامة وكثرة المرادفات، إذ قد يكون هذا النوع أقرب إلى التعريفات اللغوية منه إلى الاصطلاحية، وقد لا نستطيع من خلاله ـ في غالب الأحيان ـ التمييز بين قسمي المقاصد (مقاصد الشارع ومقاصد المكلف).وهنا تعمدت عدم استحضار أي تعريف بعينه حتى لا أحشر نفسي في دائرة ضيقة. ويكفي أن يستحضر الباحث المواصفات سالفة الذكر وسيتمكن ــ بإذن الله ــ من حسن اختيار النموذج المناسب من التعريفات الكثيرة.
- دكتورنا الكريم: ما هو تقييمكم لمسارات الدرس المقاصدي المعاصر تنظيرا وتنزيلا؟
نعم لقد عرف الدرس المقاصدي المعاصر تطورا سريعا، خصوصا على مستوى التأليف؛ فمنذ ظهر كتاب “الموافقات” للإمام أبي إسحاق الشاطبي والكتابات مستمرة بشكل مطرد من قبل كثير من النظار والباحثين المتميزين؛ بدءا بالإمامين محمد عبده ورشيد رضا، ومرورا بالإمام الطاهر ابن عاشور والعلامة علال الفاسي رحمهم الله جميعا، وانتهاء بالدكاترة أحمد الريسوني، وحمادي لعبيدي، وفريد الأنصاري رحمه الله، وعبد الحميد العلمي، ونور الدين الخادمي، ووصفي عاشور أبي زيد، وغيرهم من الباحثين المبدعين الذين بنوا مشاريعهم العلمية المقاصدية على ما ألفه الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى.
ولم يقتصر التأليف المقاصدي على هذا المنحى فقط، بل هناك من اهتم بالتنظير المقاصدي تأصيلا وتفصيلا لبعض قضاياه النظرية، والكتب في هذا المسار لا تعد ولا تحصى.
ونحن نتحدث عن مسار التأليف المقاصدي، لا يمكن أن ندع الفرصة تفوتنا دون التنويه بما تقوم به كثير من المراكز البحثية من دورات علمية ومؤتمرات وندوات وأيام دراسية متخصصة في قضايا مقاصد الشريعة الإسلامية، ثم بعد ذلك يتم طبع الأعمال. ولاشك أن كل المهتمين بهذا الفن يتابعون الجديد في التأليف المقاصدي الذي ينشر من طرف مركز “دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية” التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، وما ينتجه أيضا “مركز المقاصد للدراسات والبحث بالرباط” الذي يدير أعماله فضيلة الدكتور أحمد الريسوني.
وأما على مستوى تنزيل الدرس، فرغم ما كتب في هذا المسار، وما أنجز من بحوث علمية لنيل الماستر (الماجستير) أو الدكتوراه من قبل كثير من الباحثين الشباب في الجامعة المغربية، أو في غيرها من الجامعات … فإنه لم يحقق المنشود، إذ ما زلنا في حاجة إلى المزيد من البحوث الرصينة التي تلامس الواقع المعيش بنفس علمي مقاصدي رصين.
وهكذا أكون قد أجبت ـ بتوفيق من الله ـ على سؤالكم. لكن للاستدراك، إذا كنتم تقصدون بمسار التنزيل تفعيل المقاصد في شؤون الحياة العامة (اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وإدارية…)، فلا شك أن العزم معقود عند كل المشتغلين للاهتمام بكل ما يطور هذا المسار، والذيينقصنا في وقتنا الراهن هو الإرادة الصادقة عند القائمين على تلك المجالات لفسح المجال من أجل استصحاب البعد المقاصدي وتفعيله في الحياة العامة. ومن يتتبع ما يجري الآن في العالم سيلحظ لا محالة أن هناك بشائر بدأت تلوح في الأفق، وأمارات ذلك بادية بشكل واضح في بعض الدول كإندونسيا وماليزيا، وغيرهما من بقاع المعمور، ولو بشكل متفاوت. وهنا لا بد من التنبيه إلى أننا لا ينبغي أن نراهن أثناء التفعيل والتنزيل على الرسوم والأشكال، بل لا بد من المراهنة على الجواهر والمعاني كما هو الشأن في الفكر المقاصدي عموما. وبناء عليه، لا يضيرنا أن لا تسمى المقاصد باسمها، بل الذي ينبغي الاهتمام به أكثر هو التفعيل السليم لمحتوياتها ومضامينها.
- في رأيكم: ما هو تقويمكم للتقاطعات والتكاملات المعرفية والمنهجية بين الدرس المقاصدي وبين علوم شرعية وإنسانية أخرى؟
إن الجواب عن هذا السؤال يقتضي منا تأكيد حقيقة وجود تقاطع وتكامل معرفي ومنهجي بين الدرس المقاصدي والعلوم الشرعية والإنسانية؛ فعلى مستوى العلوم الشرعية نلحظ أنها كلها تشترك في خدمة النص الشرعي إما بيانا، أوتوثيقا، أواستنباطا للحكم الشرعي قصد تنزيله على واقع الناس وفق رؤية مقاصدية راشدة، ومن هذا المنطلق، فالتكامل بين المقاصد والعلوم الشرعية لا يماري فيه أحد، بشرط أن تكون المقاصد المشار إليها هاهناهي التي تحدث عنها العلماء الراسخون أثناء حديثهم عن ماهيتها وضوابط إعمالها أثناء مرحلتي الفهم والتنزيل.
وأما على مستوى العلوم الإنسانية، فبدون شك إذا كنا نتحدث عن هذه العلوم وفق التصور الإسلامي للعلم، الذي يحدد أسس التعامل مع الإنسان والكون، فإن التكامل والتقاطع يبدو جليا، خصوصا على مستوى المضامين، وأما على مستوى المناهج أو الوسائل المتبعة، وانطلاقا من كونها غير توقيفية بل هي اجتهاد بشري، فإننا لا يمكننا أن نفاضل بين العلماء والمفكرين أثناء إعمالها -سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين- إلا إذا قمنا بتقييم دقيق للنتائج التي أفضت إليها، وللمقاصد التي حققتها، وكل ذلك له ارتباط بتنوع الوسائل المعرفية المعتمدة التي زود بها الإنسان لكشف سنن الله تعالى في عالم الشهادة.فكل المناهج و الوسائل التي يوظفها الباحث في مجال العلوم الإنسانية لا يمكنها أن توصل إلى معرفة يقينية؛ فالباحث المنطلق من التصور الإسلامي أثناء التعامل مع عالم الشهادة يؤمن أن النتائج المرتبطة بهذا المجال احتمالية وظنية، لكن غيره -الذي ينطلق من تصور آخر- يوقن بظواهر عالم الشهادة، وفي الغالب تجده ينكر أو يشكك في قضايا الغيب، وفي شأنهم قال الله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7].وبناء عليه، فإدراك مقاصد العلوم الإنسانية مفيد جدا بالنسبة للباحث المسلم القادر على وزنها بميزان الإسلام وتوجيهها في الاتجاه الذي ينسجم مع مقاصد الشريعة الإسلامية من خلال نقدها نقدا علميا يميز فيها بين المقبول فيأخذه ويطوره، وبين المرذول فيرفضه ويتخلى عنه.
- بناء على المستويات التكاملية السابقة: هل من تبيان للوظائف المنهجية والعملية التي يمكن للدرس المقاصدي الاضطلاع بها؟
بالفعل إن للفكر المقاصدي وظائف منهجية وعملية متنوعة ومتباينة يضطلع بها في مختلف المجالات، لا يسعنا في هذا المقام عرضها كلها، بل إنه من المتعذر القيام بذلك، ونكتفي هاهنا بذكر ما يمكن أن تتحقق به الإفادة:هناك عبارة جامعة للدكتور أحمد الريسوني -حفظه الله- تعبر بشكل دقيق عن وظائف الدرس المقاصدي، حفظتها منذ قرأتها في كتيبه الماتع “الفكر المقاصدي قواعده وفوائده”، وهي: “المقاصد منهج فكر ونظر”. صحيح، وانطلاقا من تدريسي لمقاصد الشريعة الإسلامية، وقراءتي لما يكتب في قضاياها ومسائلها، وبتتبعي لأحوال المتشبعين بها من علماء وأساتذة وباحثين ألحظ أثرها الواضح، سواء على مستوى تنهيج الأفكار أو ضبط الممارسة العملية؛ فهي تشكل -بلا منازع- منهجا متميزا للفكر والنظر، والتحليل والتقويم، والاستنتاج والتركيب، وهي أيضا تجعل العالم المتشبع بها ، وكيفما كان تخصصه، قاصدا فيما ينتجه من علم، وما يناقشه ويحرره من قضايا، ممتلكا النظرة الشمولية التكاملية في بحوثه النظرية و”الميدانية” المرتبطة بواقعه المعيش؛ سياسية كانت، أو اقتصادية، أو اجتماعية…
إن فكرة المقاصد الشرعية فكرة معيارية في جوهرها؛ فبناء على أساسها يقيم الباحث نتائج بحوثه، ويحدد معالم النجاح، ومواطن الفشل -سواء على مستوى المنهج أو المحتوى المعرفي- في ضوء الأهداف والغايات التي حددها في الانطلاق، وبالنظر إلى النتائج العلمية التي خلص إليها في النهاية.
إننا في هذا الحيز الضيق، لا يمكننا التفصيل في عرض الوظائف المنهجية والعملية للدرس المقاصدي، وإنما تكفي تلك الإشارات الدالة على كونه يضطلع بمهام كبرى يمكن تلخيصها في: التركيب، والترتيب، والموازنة، والتدقيق، والتقديم والتأخير، والتقييم، واستشراف المآلات…وكل هذا، وما لم أذكره غير مقتصر على مجال دون مجال، بل هو شامل لمجالات الحياة كلها.
- كيف للمنهج المقاصدي أن يتحقق بمهمة ترشيد الفكر والعمل في الواقع الإسلامي المعاصر؟
إن هذا السؤال مرتبط أشد الارتباط بالسابق، وللجواب عنه لا بد أولا من استصحاب ما سبق، ثم إتمامه بما يلي: إن واقعنا المعاصر يشهد تحولا واضحا على كل المستويات مما تولد عنه كثير من النوازل المعاصرة والوقائع المستجدة التي تتطلب من العلماء والباحثين المقاصديين الإسهام في إيجاد أجوبة وحلول مناسبة لها من منطلق تسديد الفكر وترشيد العمل. ومن أمثلة ما ينبغي إعمال المنهج المقاصدي في قضاياه ونوازله: العمل السياسي أثناء المشاركة والانخراط فيه، فلا بد هاهنا للقائد السياسي، أو المشتغل في دواليب السياسة من الاستنجاد بالمنهج المقاصدي على مستوى الفكر من خلال الفتاوى المسترشدة بالنظر المقاصدي، والمسددة للمواقف والاختيارات، وأيضا على مستوى العمل والممارسة اليومية؛ لابد من إعمال المنهج المقاصدي، من خلالالموازنة بين المصالح والمفاسد، واعتبار المآلات، وتحقيق المناطات…
وما قلته عن هذا النموذج المتعلق بالسياسة، يمكن تعميمه على قضايا الاقتصاد والطب والاجتماع، والعلاقات الدولية، وغيرها من القضايا التي يعرفها واقعنا الإسلامي المعاصر بسبب التحديات الداخلية والخارجية الراهنة.
إنه في غياب إعمال المنهج المقاصدي أثناء دراسة تلك القضايا التي يعج بها واقعنا المعاصر، لا شك أننا سنجد أنفسنا أمام تحديات من نوع آخر سمتها الإفراط أو التفريط، والتشدد أو التسيب على مستوى النظر والممارسة. وأعتقد جازما أن شيئا من ذلك قد وقع في غفلة واضحة عن ما ينفع الناس بسبب ضحالة العلم بمقاصد الشريعة الإسلامية، وعدم اعتبارها إما جهلا بفوائدها ووظائفها، أو خوفا وتهيبا من إعمالها بدعوى الحفاظ على جلالة وقدسية ما له ارتباط بالدين الإسلامي. وكل تلك المسوغات ولدت في النهاية مظاهر عديدة من الخلل والقصور على مستوى الفكر والعمل.
- هل لكم أن توضحوا هذا الترشيد المقاصدي في مجالات التربية والدعوة والإصلاح عموما؟
إن الحديث عن التربية والدعوة والإصلاح من منظور الدين الإسلامي هو حديث عن الرسالة المنوطة بأتباع هذاالدين. وتبعا لذلك فإدراك مقاصد هذه المجالات هو من صميم مقاصد الرسالة الإسلامية، واستحضارها بوعي تام من قبل المسلم سبيل للترشيد من خلال كثير من الجوانب، أذكر منها -بحسب ما يسمح به الوقت-: الاستمرار في أداء الرسالة بلا كلل أو ملل، بل بنشاط دائم وهمة عالية، وعدم الالتفات إلى الفتن أو الحواجز التي تعترض السبيل “فمن عرف ما قصد هان عليه ما وجدد”، التعامل بمرونة مع وسائل وإجراءات التربية والدعوة والإصلاح، والقيام بكل هذه المهام على بصيرة مصداقا لقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
ومن جانب آخر فالترشيد في مجلات التربية والدعوة والإصلاح يظهر أثره من خلال وضوح رؤية الداعية المسلم، ونضج عقله، وقياس نسبة نجاحه أو فشله في مهمته الإصلاحية بحسب نسبة تحقيق الأهداف والغايات المرسومة أصلا وفق مقاصد الإسلام. وما ينبغي إدراكه هاهنا هو أن الترشيد المقاصدي لا يقتصر على اختيار الوسائل أثناء الفعل، وإنما يشمل أيضا الخطاب، بحيث يصير خطابا متزنا ومعتدلا يرتبط بالأصل في كلياته وثوابته وقطعياته، وينفتح على العصر في تراثه المعرفي وأحوال المخاطبين، وما يعرفه الواقع المعاصر من مستجدات.
وعلى العموم، أقول باختصار: انطلاقا من مزايا الترشيد المقاصدي في تلك المجالات الحيوية، ينبغي أن نجعل من المقاصد المعيار الحاكم لكل فعل دعوي، والضابط الأساس لمجال التربية، والفكر المرشد لجميع المصلحين في كل العصور والأزمان، وفي كل الأماكن والبلدان.
- في الساحة الفكرية المعاصرة من ينادي بتوسيع دائرة الفكر المقاصدي وتحريره من القيود القاعدية للدرس الأصولي وغيره، ماهو موقفكم العلمي من هذه الدعوات؟
لما كنت أدرس طلبتي في ماستر “مقاصد الشريعة الإسلامية عند مالكية الغرب الإسلامي بين النظرية والتطبيق” وأثناء مناقشتنا العلمية لقضية “دعوى استقلالية المقاصد” خصوصا عن علم أصول الفقه، باعتباره “مجموعة من القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية” كثيرا ما كان النقاش يحتدم، والآراء تختلف وتتباين، لكن في المحصلة تتقارب وجهات النظر -بتوجيه مني-، من خلال التذكير بضرورة التمييز بين جانبين أساسين: جانب القول باستقلالية “مقاصد الشريعة الإسلامية” واعتبارها “علما” مستقلا بقواعده، ومصطلحاته، ومؤلفاتها، وغير ذلك أثناء التدريس، والتأليف…، وجانب دعوى الاستقلالية أثناء الإعمال والتوظيف، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال القول باستقلالية “المقاصد” واعتبارهاعلما قائم الذات بمعزل عن أصول الفقه، أو غيره من العلوم. فإعمال المقاصد أثناء الفهم والتنزيل في حاجة ماسة إلى قواعد الأصول.
وبالرجوع إلى سؤالكم، أقول: لا ضير في فسح المجال لتوسيع دائرة الفكر المقاصدي حتى يشمل كل المجالات والاختصاصات، ويعم كل مناحي الحياة لأن ذلك يقويه ولا يضعفه، لكن شريطة أن يتم كل ذلك بقواعده وضوابطه التي حددها علماؤه قديما وحديثا في كتب أصول الفقه. وأما إذا فسح المجال لأولئك الذين يدعون إلى تحرير المقاصد من قواعد الأصول، فإننا سنكون أمام اسم “المقاصد” بدون مسمى، بل إننا سنصبح أمام أفكار هلامية عنوانها التسيب في التعامل مع شرع الله وقضايا الناس، وسوف نلحظ اندفاع المتسيبين نحو التقول على شرع الله بغير علم، والتقصيد بغير دليل شرعي ولا ضابط علمي أصيل، وكل ذلك سيتم باسم إعمال المقاصد. ونحن نلحظ أنهم رغم اشتراط ربط المقاصدبالأدلة الشرعية والقواعد الأصولية فهم لا يترددون في الدعوة إلى التحرر من شرع الله نهارا وجهارا، فكيف إذا أيدنا دعوى تحرير المقاصد من قواعد الأصول؟ لا شك أن الكارثة ستقع وسيصبح كثير من الناس -لا قدر الله- كالأنعام لا شرع يحكمهم ولا مقاصد حقيقية يهتدون إليها.
- كيف للفكر المقاصدي أن يعدى إلى مجالات العقيدة والأخلاق؟ وهل لهذه الدعوى ما يسندها في تاريخ هذه العلوم؟
إن الحديث عن مزايا الفكر المقاصدي هو حديث عن الفكر المسترشد بالنظرة المقاصدية في كل المجالات، بما فيها العقيدة والأخلاق؛ وبيان ذلك أن إعمال مقاصد الشريعة الإسلامية عموما في أي مجال من مجالات الفكر والحياة هو عمل بأصل الدين الإسلامي، واستحضار لغاياته وأسراره وحكمه التي ترنو إلى بناء الإنسان وتزكية الوجدان وتوطيد العمران ونهضة الأوطان وتسخير الأكوان. ونحن عندما نقول بتعدية الفكر المقاصدي إلى مجالي العقيدة والأخلاق فإننا نراهن على تحقيق المقاصد الكبرى فيها، والاهتمام بالكليات الكبرى التي تشكل الأصول فيهما، وعدم الانجرار وراء الفروع والجزئيات التي غالبا ما يولد الاشتغال بها الخلاف حول قضايا نظرية لا ينبني عليها عمل، ونحن نعلم “أن الاشتغال بالمباحث النظرية التي لا ينبني عليها عمل -خصوصا في هذين المجالين- مذموم شرعا”.
إن إيلاء العناية القصوى للاهتمام بمقاصد العقيدة والأخلاق مرده بالأساس الحاجة الملحة في كل الظروف والأحوال إلى تفعيلها في واقع الناس وإحداث التغيير المنشود؛ بمعنى أن الاهتمام أولا بروح العقيدة وجوهرهاهو السبيل لبناء الإنسان السوي المؤمن بربه إيمانا صادقا انطلاقا من استيعابه الجيد لمضامين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، وسعيه الحثيث لاستحضار المقاصد التي تتغياها والتفاعل معها في حياته الخاصة والعامة.
وأما مجال الأخلاق فربطه بالمقاصد أوضح؛لأن تمثلها مرتبط أساسا بتعامل الناس بعضهم مع بعض، وإذا لم تكن منطلقة من جوهر الإسلام ومقاصده فلن يكن لها تأثير، وسوف تكون عبارة عن قيم مجتثة لا أصل لها، ولا غايات مفيدة تتغياها.
وجوابا عن الشطر الثاني من سؤالكم، أقول: إن علماء السلف رحمهم الله جميعا كانوا دائما أثناء حديثهم عن العقيدة والأخلاق يستحضرون المقاصد، ومن يتصفح كتب حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن قيم الجوزية، والإمام الدهلوي، والإمام الشاطبي، وغيرهم يلحظ مدى احتفائهم بالمقاصد في مجالي العقيدة والأخلاق، وإن كنت لا أتذكر تأليفا مستقلا في الموضوع. ونفس الأمر يقال عن العلماء والباحثين المعاصرين من أمثال الطاهر بن عاشور، وعلال الفاسي، ويوسف القرضاوي، وأحمد الريسوني، وطه عبد الرحمن … مع تسجيل تفاوت واضح بينهم في الحديث عن مقاصد كل من العقيدة والأخلاق.
- ثم هل لكم دكتورنا الفاضل أن تنوروا الباحثين بالمجالات البحثية البكر في الدرس المقاصدي لاستكمال البحث فيها وتتميمها، ولم لا لابتدائها؟
اسمحوا لي قبل الجواب عن سؤالكم أن أشير -ولو بإيجاز- إلى أمر ضروري، وهو: أنني لاحظت -بحكم تواصلي مع المهتمين بالبحث المقاصدي في المغرب وخارجه- أن كثيرا من الباحثين اليوم، خصوصا في بلدنا المغرب، وبنسبة أقل في غيره من البلدان يتوجهون إلى اختيار مواضيع بحوثهمفي مجال مقاصد الشريعة الإسلامية، وأعتقد أنه بقدر ما يدعو هذا الاهتمام إلى السرور، فإنه وجب التنبيه إلى ضرورة الضبط وعدم الانجرار وراء الاختيارات النابعة من حماسة زائدة، أو الرغبة في الإجابة على قضايا راهنة دون استكمال العدة. وتبعا لذلك أدعو من خلال هذا المنبر إلى ضرورة التفكير في وضع ضوابط مسددة للبحث المقاصدي، سواء على مستوى بنيات البحث داخل الجامعات، أو من خلال مراكز البحث والمنتديات والمؤسسات المهتمة بدراسات مقاصد الشريعة الإسلامية.وللإشارة، فإنني بهذه الدعوة لا أهدف-معاذ الله-إلى تكبيل الباحثين والحجر عليهم، وإنما أرمي من ورائها إلى مزيد من الترشيد والتسديد حتى يحقق البحث المقاصدي ثماره بإذن الله تعالى.
وأما عن المجالات البحثية البكر، ففي نظري، وبحكم متابعتي لما يكتب ويؤلف وينشر في المجال، فالبحث المقاصدي ينبغي أن يتوجه إلى كل جديد يهتم بقاصد الشريعة الإسلامية ويسهم في تنمية إعمالها في مجالات الحياة، من خلال:
- أولا المزيد من التأصيل العلمي والترشيد المنهجي والنقد الموضوعي للفكر المقاصدي.
- الاهتمام بالدراسة المقارنة لمقاصد الشرائع المنزلة.
- إبراز العلاقة العلمية والمنهجية بين مقاصد الشريعة ومختلف العلوم الشرعية.
- إبراز العلاقة العلمية والمنهجية بين مقاصد الشريعة والعلوم الإنسانية.
- إنجاز بحوث علمية مشتركة مع أهل الاختصاص في مجال (مقاصد الشريعة وقضايا الناس الراهنة):قضايا اقتصادية، قضايا سياسية، قضايا قانونية…
- انجاز مؤلفات مدرسية في مقاصد الشريعة الإسلامية (بحسب الفترات العمرية).
- إنجاز بحوث ميدانية في مجال إعمال مقاصد الشريعة في الحياة العامة.
هذه نماذج من المجالات التي أعتقد أنها ما زالت بكرا تنتظر الباحثين ذوي الهمم العالية ليشرعوا في إنجازها، إما فرادى أو من خلال مجموعات بحثية. ولا شك أن التوفيق سيكون حليف من انبرى إلى ذلك بكل صدق وعزم.
شكرا لكم على هذه الالتفاتة العلمية التي شرفتموني بها، سائلا الله تعالى أن يوفقكم ويسدد خطاكم، وأن يكلل جهود كل الباحثين ببلوغ المقاصد، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.