قراءة في كتاب “مسؤولية المثقف” لمؤلفه الدكتور محمد حامد الأحمري

قراءة في كتاب “مسؤولية المثقف” لمؤلفه الدكتور محمد حامد الأحمري

قراءة: مصطفى فاتيحي

 

تمهيد

شغل موضوع المثقف حيزا معتبرا من اهتمام الباحثين والأكاديميين، بالنظر إلى الأدوار الطلائعية والمسؤوليات الملقاة على عاتقه تنويرا وتوجيها ونقدا وترشيدا. ولا يخفى التأثير البنيوي للمثقفين في البناء الحضاري ونهضة الأمم وتقدمها. ومنه فإن الحديث عن هذا الصنف من الموضوعات يظل يتسم بقدر كبير من الراهنية والتجدد، ويعسر الزعم بإمكانية أن يطاله التقادم، أو يعد من القضايا المكررة والمستهلكة.

ووعيا منه بأهمية الموضوع فقد ألف محمد حامد الأحمري كتابا يجدد النقاش في المسألة، مستصحبا ما كُتب قبله، ومتطلعا إلى التذكير بالمسؤولية وإيقاظ الهمم، وتحديد جملة من المفاهيم التي اكتنفها اللبس وعلقبها بعض الغموض.

والكتاب صدر عن منتدى العلاقات العربية والدولية سنة 2018، في  256 صفحة.

والمؤلف هو:

محمد حامد الأحمري (من مواليد 1959) كاتب ومفكر سعودي. حاصل على الماجستير والدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر، ومدير منتدى العلاقات العربية والدولية. له العديد من المؤلفات والمشاركات العلمية والثقافية منها:

  • الحرية والفن عند علي عزت بيجوفيتش.
  • مذكرات قارئ.
  • ملامح المستقبل.
  • الديمقراطية: الجذور وإشكالات التطبيق.

 

  • السياق التاريخي والفكري للكتاب

يأتي الكتاب في سياق حرج، بالنظر إلى الانتكاسات التي توالت على الأمة وحالة التشظي التي ألقت بظلالها على مختلف المجالات، وانسحاب المثقفين وتنصلهم من أدوارهم الطلائعية في الريادة والقيادة، بل اصطف بعضهم إلى جانب رعاة الاستبداد وحماة التخلف، وآثر البعض الآخر السلامة ومطامنة الذات، ومن ثم خذلان المستضعفين  والقضايا الحارقة، وترك الساحة فارغة أمام الآلة الإعلامية الكاسحة التي أتاحت الفرصة أمام الضحالة والسخف لتصدر المشاهد والهيمنة عليها.

وعليه، فإن الكتاب يندرج ضمن اهتمام المؤلف بالأسئلة الحضارية وإشكالات النهضة والتقدم، فهو إذن صرخة مدوية ودعوة صريحة إلى الضمائر الحية لتنفض الران الجاثم على العقول والنفوس وتتحمل مسؤولياتها التاريخية في هذه المحطات والمنعطفات الفارقة، وكذا الرغبة العميقة في تجاوز الشعارات الفارغة إلى الانشغال بالمشكلات الراهنة واستشراف المستقبل، والتقدم بالمشاريع الإصلاحية إلى الأمام والحاجة الماسة إلى تجديد النخب وتجديد الأدوار، والانعتاق من آفة اليأس والإحباط وشيوع الروح السلبية والثقافة الانتظارية.

  • أهداف الكتاب

سعى المؤلف من خلال هذا الكتاب إلى تعريف المثقف والثقافة، ليدخل من هذا إلى موضوعه وهو مسؤوليته. ومسؤوليته تبدأ من قصة بنائه ذاتا واعية عارفة بالنفس وبالمحيط، وتتعامل مع الآخر وهو الإنسان المختلف زمانا ومكانا وثقافة[1].

وعندما اختار المؤلف  الكتابة عن مسؤولية المثقف، أراد أن يكون الحديث عن واجباته، وعن الأشياء التي يسأل عنها، حاضرا في حياته أمام نفسه ثم أمام مجتمعه وضميره، وهي في النهاية مسؤوليته أمام ربه[2].

 

  • أطروحة الكتاب وأفكاره المركزية

ينافح الأحمري ويرافع عن أطروحة أساسية تتمثل في سعيه لإعادة النظر في تحديد مفهوم المثقف كمدخل ومنطلق لتحديد أدوراه ومسؤولياته، وكذا تكوينه والبيئة الراعية له، ويستبطن صورة المثقفين الغربيين، ناظرا إلى ريادتهم في قيادة مشاريع للبناء الحضاري والتعبير عن تطلعات الشعوب التي ينتمون إليها والمنافحة عن أمالها وآلامها.

وبناء على ذلك صنف المؤلف المثقفين إلى أنماط وأشكال، اعتبارا للحضور أو الغياب فيما يتعلق بالانشغال بقضايا الشأن العام.

فأضحى المثقف عند الأحمري: هو من عنده موقف ينشره مؤسس على معرفة ورؤية[3].

وفي سبيل ذلك نجده يخفف من الشرط الأكاديمي لاستحقاق لقب المثقف، فلا يشترط فيه رسوخا علميا في تخصص ما، ولا يشترط فيه شهادة أكاديمية ولا تخصصا معرفيا، بل يشترط فيه الوعي والحرص عليه، والعين البصيرة المخلصة للمصلحة العامة. ويرنو من خلال ذلك إلى توسيع دائرة المثقفين ليكثر من يشارك في صياغة الرأي العام، لأن الأصل في المثقف أن يكون عمليا لا نظريا. فليست الثقافة مجرد متعة ذهنية، ولا هي معالجة نصوص فلسفية، وقيمة أفكار المثقف في امتحانها يوميا في مجتمع الناس.

ومنه فإن التلازم بين المثقف والعلمانية ليس ضرورة ولا يمكن التسليم به، فالأحمري لا يشترط أيضا في المثقف شرطا مذهبيا، فقد يكون متدينا أو علمانيا، ويأتي المثقف من مهاد ديني أو أدبي أو علمي تطبيقي، ولكن بلا شك سيكون قد امتلك من المعرفة والوعي والحرص ومن اللغة والبيان ما يؤهله للتأثير، وقد يصطدم مع العلمانيين أو المتدينين[4].

كما يبين الأحمري أن طبيعة المثقف تقتضي تحيزه، ويحذر من السقوط في وهم الثقافة الإنسانية العالمية[5]. وأن نكون واعين بتحيزاتنا أفضل من إخفائها أو عدم الوعي بها.

والتحيز عندما تحُاصَر شروره ويخفف منه ويبقى في دائرة العدل ولا يصل إلى الجور على الآخرين، فإنه يبقي شيئا من التنوع الجميل في أنماط الأفكار والحياة البشرية، بحيث لا تطمس ألوان هذا الكون المختلفة ليصبح اللباس واحدا واللغة واحدة والتعامل واحدا والطعام واحدا، وننتهي بثقافة واحدة[6].

كما يعتبر أن من سلبية المثقف انتفاعه وتظاهره بعدم حمله لأي إيديولوجيا، ولو تعقبته لوجدته مجرد سمسار لإيديولوجيا الاحتلال أو لشهوات أحد الطغاة، أو سمسارا لإيديولوجيا مضادة لمجتمعه لا يدركها[7].

  • فلسفة مصطلح المثقف

قبل أن يحدد المؤلف مفهوم المثقف تناول وظيفة الثقافة، باعتبارها تقدم منظورا للتصور والإدراك، فالنظرة إلى العالم ترجع بالأساس إلى الخلفية الثقافية، والثقافة أيضا تقدم دوافع للسلوك البشري، وهنا نستحضر الأعراف والتقاليد، كما تقدم الثقافة معايير للتقييم والحكم على الأفعال والاختيارات إيجابا وسلبا، والثقافة تقدم أساسا للهوية، كما تصنع صيغة للتواصل[8].

ومنه يرى المؤلف أن مصطلح مثقف مصطلح جديد في ثقافتنا، مهما كانت أصول الكلمة موجودة قديما، كما هو مصطلح جديد نسبيا عند غيرنا[9].

وهو مصطلح يتسم بقدر كبير من الالتباس، ولكن دلالته في جميع اللغات متقاربة، حيث تشير إلى النباهة وبُعد النظر والرؤية، وضمن ذلك مصطلح “أنتلجنسيا” في الثقافة الروسية الذي يطلق على النخبة المثقفة الأكثر حضورا وتأثيرا[10].

وقد أسعفت الأحمري هذه المعاني في نقد التعريفات الكلاسيكية من جهة، ومن جهة أخرى بناء تعريف جديد: فالمثقف هو المتعلم المستهلك لبعض منتجات الثقافة، المهتم بالشأن العام المعرفي أو الفني أو الأخلاقي أو التشريعي، وهو متابع ومنجز لاهتماماته عبر منبر من منابر البلاغ العام، يقول ما يراه حقا ويكشف ما يراه خطأ، ولديه رؤية للمستقبل، ويؤمن برؤية ويحاول الإقناع بها[11].

يقول علي شريعتي: إن المثقف هو إنسان يفكر بطريقة جديدة، وإن لم يكن متعلما، وإن لم يعرف الفلسفة، فعسى أن لا يعرفها، وليس فقيها، لا يهم، وليس عالم طبيعة أو كيميائيا أو مؤرخا أو أديبا، لا يهم، لكنه يحس عصره أو يفهم الناس، ويفهم كيف يفكر الآن، ويفهم كيف ينبغي له أن يحس بالمسؤولية، وعلى أساس هذه المسؤولية يكون مستعدا للتضحية[12].

اتضح إذا، من خلال التعريف أن للمثقف أدوارا مركبة ومعقدة، وهو ما تناوله الأحمري في فاعلية المثقف والتزامات المثقف، مستدلا بكثير من المقولات التي تشير إلى أن المثقف بعيد عن الروح السلبية، وأن الكُتاب باعتبارهم مثقفين هم مهندسو النفس البشرية وهم ضمير المجتمع، وأن أدوارهم الطلائعية تجعلهم في مواجهة سلطة المجتمع، فعلى المثقف أن يحاذر من الارتهان إلى رغبة ظاهرة أو مضمرة تجعله يساير الشعور العام والضمير الجمعي. وأن دور المثقف دور إنساني حيث يعبر عن حاجات الناس ومآسيهم ومطالبهم وطموحاتهم[13].

ومن واجبات المثقف تفسير الحوادث أو إعادة تفسير قديمها، وذلك بحسب ما يجده من حق يحتاجه الناس[14].

وليقوم المثقف بالأدوار المنوطة به يحتاج إلى العمل الجاد والمستمر على تنمية قدراته في المعرفة والعلاقات، والجد في تهذيب نفسه[15].

وذلك من خلال التكوين العلمي والاطلاع الواسع، والحرص على المثقافة والحوار.

ومن مؤهلات المثقف أيضا: مراعاة الجوانب المؤثرة في إبلاغ الأفكار، من قبيل النظرة الشاملة والمتكاملة وتقدير المآلات، والقدرة البيانية والحجاجية، فضلا عن ضرورة تجنب المعارك الهامشية المبددة للجهود، من خلال المران والدربة على تلافي الهنات والزلات التي يستغلها الخصوم للإيقاع بالمثقف، كما يحتاج المثقف إلى سعة الأفق، لينفتح على وجهات النظر الأخرى، لما لذلك من أثر في إنضاج الرؤية، باعتبار المثقف موجها ومرجحا ومشخصا وناقدا، كما يحرص على وصول أفكاره إلى الجماهير وينأى عن الطرح المثالي الحالم[16].

ومن دون شك أن الذهول عن هذه المؤهلات أو استسهال أمرها أوقع كثيرا من المثقفين في مواقف حرجة فأصبحوا متجاوزين، وذلك ما سماه المؤلف جمود المثقف وخمول المثقف.

  • فضاء المثقف وبيئة تكوينه وتكوُّنه

من الإشكالات التي لفت المؤلف الانتباه إليها، فضاء اشتغال المثقف والمجال الذي يحتضنه ويتفاعل فيه ومن خلاله، فإذا كانت البيئة موبوءة لا تساعد على فهم الأفكار وليس فيها نقاش بناء حول القضايا الكبرى، فإن المثقف يظل غريبا هامشيا، مما يحوجه إلى الغربة[17].

وذلك لحاجة المثقف إلى من يتبنى أفكاره وينشرها أو يقومها، فالثقافة تلزم لنموها مشاركة واسعة، وشبكة تستقبلها فتفرح بها أو تسخط بها أو تسخط عليها وتقيمها وتنتقدها[18].

والتفاعل المجتمعي في البيئة الثقافية يحيي الناس ويرفع مستواهم ويجبر كَسُولهم على أن يتجاوب، وجاهلهم على أن يتعلم، وغافلهم على أن يستيقظ، ويحيي التجاوب الحق ويميت الباطل، لأن الأصل في الناس الخير والسداد والتفاعل الصالح المصلح، والعكس هو الأقل[19].

ولبيان أهمية البيئة الثقافية في نجاح المثقف يذكر المؤلف أن من أسباب نجاح بعض المثقفين الكبار وتأثيرهم من حف بهم من متجاوبين وناشرين وشارحين ومؤيدين ومعترضين، حتى إن بعض المؤلفين الكبار كانت من أهم أعمالهم محاضرات متقطعة ومبتسرة مثل هيجل، ولكن تلاميذه والمتجاوبين معه بعثوا الحياة في فكره وثقافته ونصوصه؛ فالجهد والنشر الكبير لكتاب كبار -مثل ميشيل فوكو وليفي ستراوس وبعض معاصريهما- يعود إلى طلابهم في الجامعة وإلى مريدهم، فقد صنعوا من مقالاتهم كتبا ومواقف[20].

وإن مما يوهن عمل المثقف ويعيق ألمعيته جنوح المجتمع إلى التكرار والتقليد والنفور من كل جديد والتوجس خيفة من التغيير، بمبررات مجترة، مثل أن التنوع يضر بالسياسة والاستقرار والأمن[21].

ويحذر الأحمري من مغبة تقديس الأفكار، لأن الأفكار قد تصنع إبادة للسلوك الإنساني عندما لا تخضع لتجارب عقلانية، ولأن الأفكار مهما كانت يفسدها الإنسان بتفسيره وطريقة تعامله معها، وبتغير زمانها.

وأسوأ من التزمت الفكري التزمت للأشخاص، فهو يجعل من الشخص العارض فكرة ثم يتزمت لها، ومن هنا كان التعلق المبالغ فيه بالأشخاص هو أدنى مظاهر التفكير وأقلها احتراما عبر العصور[22].

ويتواشج مع ذلك سجن بعض الأكاديميين أنفسهم سجنا معرفيا في تخصصهم، فدخل عليهم الجهل من هذا المدخل، مدخل الاكتفاء بالتخصص وكتبه المدرسية، وكأن المعرفة تعني بعدا عن إشكالات المجتمع[23].

كما يرصد تحول العمل الثقافي عند الكثيرين إلى حرفة بلا رسالة، وهم الذين ليست قضية ينافحون عنها ولا يحملون هما تجاه الكون والإنسانية، وهم أيضا آلات صماء يؤدون مهاما بشكل متكرر وممل[24].

إن النقد الكبير للأكاديميين حسب الأحمري في العالم العربي يأتي من سيطرة الحكومة على الجامعات، فهي لا ترى أن للجامعة قيمة، خاصة أن القرار السياسي كان غالبا بأيدي الأميين وأشباه الأميين، ورأوا في المتعلمين والمثقفين والجامعيين والجامعات مركز تهديد، فأضعفوا الجامعات ونشروا الرعب فيها. وتغيرت رسالة الجامعة فيها فأصبحت مواقع للشلل الفكري والثقافي والانغلاق والتحيز، وأصبح التعليم أقرب إلى حالة تمثيل، تثبت فيها أنك موال للسلطة، لتضمن بعدها العمل المناسب، خاصة في التعليم الديني والأدبي والإداري، وهذه من أبرز الكوارث التي دمرت المؤسسة الدينية والأكاديمية، وأفسدت الجامعات وحرفتها عن غاياتها في العالم العربي[25].

وإذا كان هذا واقعنا المر، فإنه على العكس من ذلك نجد نقد السياسات العامة يبدأ من الجامعات، ويكون لذلك صداه في الإعلام والمجتمع ولدى صناع القرار.

عند حديث المؤلف عن الأكاديميين والجامعات، يكون بذلك أثار قضية جوهرية وشديدة الحساسية في علاقتها بالمثقف، إذا نظرنا إلى الوضع الذي آلت الجامعات اليوم، حيث أصبحت مؤسسات تقليدية غارقة في أعراف وشكليات بائدة ومتجاوزة من خلال القيام بوظائف روتينية، من قبيل إعطاء الشواهد، وتكريس البيروقراطية.

وغاب التأطير المساهم في التحليل والمعالجة للظواهر الاجتماعية والاشتباك مع قضايا الشأن العام والسياسيات العمومية، إضافة إلى نمطية البحوث ومراكمتها دون جدوى، والتخمة في الجوانب النظرية. وأصبحت أنظمة التقويم مكرسة للطابع الاسترجاعي في صياغة الأسئلة المفتقدة للشروط البيداغوجية الرامية إلى بناء العقلية المتسائلة والفكر الناقد ومهارات التحليل والاستدراك.

  • أنماط المثقف

اجتهد المؤلف في ذكر أصناف المثقفين تاركا للقارئ مهمة استنتاج النماذج والأمثلة من الواقع، معتمدا على معيار الأداء وليس التحصيل المعرفي الصرف.

  • المثقف العام والمثقف الشعبوي:

هو المؤثر في مختلف الطبقات الخاصة والعامة. والمثقف الشعبوي: هو صاحب الجماهرية الواسعة، والاستجابة لصوت الجماهير وإن لم تكن على صواب، وهو بهذا قد يكون واعظا أو صحافيا أو خطيبا.[26]

  • المثقف مصغرا المثقف نخبويا:

المثقف مصغرا هو الذي لم تنفعه إمكاناته المعرفية الهائلة فتحول إلى كائن صغير، والذي عنده بعض الأمراض النفسية كالحسد والتنافس غير الشريف[27].

والنخبوي وهو مثقف البرج العاجي، المنفصل عن مجتمعه[28].

  • المثقف منبها ونقيا:

المثقف المنبه هو القادر على الرصد والتوقع واستشراف المستقبل وقراءة مآلات الأحداث[29].

ونستحضر هنا عبارة دالة لعلي عزت بيجوفيتش حين يقول: إن الشعراء هم جهاز الحس في الجنس البشري، ومن مخاوفهم وشكوكهم نستطيع أن نحكم بأن العالم لا يسير في طريق الإنسانية، وإنما في طريق اغتراب الإنسان واستلاب إنسانيته[30].

والمثقف النقي: هو الذي يحاول أن يكون صريحا نقيا قدر طاقته، متخففا من شهوة القول نقدا أو تقديرا[31].

  • المثقف تابعا وقاسيا وفاسقا:

المثقف التابع هو المقلد غير المبدع الذي يلبس جبة غيره، المعطل لملكاته والفاقد للحرية.

والقاسي: المناصر للمستبدين والمنحاز للاختيارات النخبوية والمصطف إلى جانب صناع القرار.

والفاسق: هو المثقف المغرور بمعرفته والمتعالي على مجتمعه[32].

  • المثقف مجددا وناقدا وساخرا:

مجددا: باعتبار الدور الإصلاحي المنوط به والأدوار التعبيرية التي يسعى إليها.

ناقدا: البصير المنتقد وصاحب الضمير الحي في الاعتراض على المظالم وتذكير الجميع بمسؤولياتهم.

ساخرا: الناقد في قالب فني فكاهي[33].

  • المثقف سلعة وزينة ومغفلا وموظفا:

سلعة وزينة: وهو الذي يبيع مواقفه، ويجعل من ذمته سلعة ويكون حلية للمجالس.

والمغفل: هو المخاتل الذي ينحو منحى ترميز  العبارات وتلغيزها ويسلك سبل التقعر في الكتابة.

موظفا: أصبحت الثقافة عنده حرفة تحت الطلب[34].

  • المثقف متغربا وإسلاميا: وهو المثقف الإيديولوجي المنغلق.
  • المثقف حاكما ميتا:

وهو المثقف الذي تسود أفكاره بعد موته وتحكم واقع الناس بعد رحيله، لقوة طرحه وتماسكه وفعاليته، وهم المثقفون الذين عاشوا في أزمانهم أجسادا لكن أفكارهم كانت سابقة واستشرافية[35].

تبقى هذه التقسيمات والتسميات اجتهادية قابلة لأن يضم بعضها إلى بعض، أو تضاف إليها تسميات جديدة تغنيها وتكملها، رغم أن المؤلف لم يبرهن على اختياره. كما يرد عليه إشكال إطلاق لفظ المثقف على السلبي منها بالنظر إلى التعريف الذي اختاره للمثقف.

ولذلك نجد عبد الوهاب المسيري يذهب إلى أن المثقف الذي لا يترجم فكره إلى فعل لا يستحق لقب المثقف[36].

  • نحو تقويم معرفي ومنهجي للكتاب

اتسم أسلوب المؤلف بالسلاسة والانسيابية والبعد عن الالتواء والمخاتلة والتقعر. كما تضمن الكتاب مادة علمية غزيرة ومكثفة زانها جمال العبارة ورونق الأسلوب وتجنب التجريح أو التشهير.

كما نلحظ بشكل جلي النفس الاستشكالي والمهارة في توظيف الاستشهادات، فلم ينح الكاتب منحى خطيا في الكتابة، فقد قاده التحليل والمناقشة للأفكار إلى استعمال أسلوب لولبي حلزوني وهو أسلوب بيداغوجي في تناول المفاهيم، فظل مفهوم المثقف معه في جل تقريراته وأحكامه.

وينتهي القارئ من الكتاب وقد تملكته الرغبة الملحة في قراءة قائمة من المراجع والمصادر التي استشهد بها المؤلف، رغم أنه لم يتضمن في آخره قائمة للمراجع كما جرت العادة. والأسلوب الذي اعتمده الأحمري في الاقتباس أسلوب محفز على القراءة وخلق القابلية للاطلاع.

وعلى الرغم من تلك الإيجابيات الكثيرة فإن هذا العمل المتميز اكتنفه ما يكتنف الأعمال الإبداعية من بعض القصور، من ذلك انعتاق المؤلف من الصرامة الأكاديمية في الكتابة رغبة في التبسيط وسهولة التناول، وانعكس ذلك سلبا على حسن تبويب الكتاب وجودة تقسيم مباحثه، حيث تلاحقت العناوين دون ضابط يضبطها أو ترقيم يحكمها، مما أسقطه أحيانا في بعض التكرار، وكأننا أمام محاضرة تتداعى فيها الأفكار وتهجم على المحاضر، ولسنا أمام مؤلف محكم الصياغة.

يستبطن المؤلف مفهوما للمثقف يكاد يكون مثاليا، وهو أمر غير مسلم به. ويمكن إذا انطلقنا من تصوره ذلك أن لا نجد مثقفا، لاسيما أن الأحمري نفسه خفف من الشروط المعتبرة في المثقف، بهدف توسيع دائرة المشاركين في الشأن العام.

كما لم يذكر الأحمري نماذج للمثقفين الذين تنطبق عليهم الأوصاف حسب الأنماط التي صنفها، سواء الإيجابية أو السلبية، تاركا المهمة للقارئ، وإن حاول تبرير ذلك في برنامج “أفكار وأسمار” بأنه سيصدر جزءا آخر يتحدث فيه عن نماذج للمثقفين.

كذلك نجد المؤلف مشدودا بقوة إلى التجربة الغربية فيما يتعلق بالثقافة والمثقفين، مستلهما أدوارهم ومسؤولياتهم متطلعا إلى وجود نظراء لهم في مجالنا التداولي.

كما يمكن مناقشته في اعتباره المثقف كائنا جديدا، فإذا نظرنا إلى أدوار هذا الكائن الجديد نجدها تمثلت في أسمى تجلياتها عند العلماء والرواد القدامى، الذين سجل التاريخ صفحات وضّاءة ومشرقة لانخراطهم الكبير في قضايا المجتمع، والتضحيات الجسام التي قدموها في سبيل العدالة وإنصاف المظلومين.

عند حديث الأحمري عن البيئة التي تستوعب المثقف وتحضنه، حيث حاول أن يبرهن على عدم توفر الأجواء المناسبة لعمل المثقف، وكأنه بذلك يوجد للانسحابيين والمتنصلين المعاذير لتبرير خذلانهم وتقاعسهم، في حين أن المثقف -وحسب تعريف المؤلف- هو الفاعل صاحب الرؤية، وهو المؤثر، وهو بعيد عن الروح السلبية والعقلية الانتظارية، وإن الحاجة تصبح ماسة له عند سيادة الركود والاختلال في الواجبات والمسؤوليات.

تظل هناك بعض العلاقات التي لم يفكك المؤلف اشتباكها وترابطها، من قبيل علاقة المثقف بمراكز البحث المستقلة التي يمكن أن تقوم بأدوار رائدة في تكوين المثقفين، وتشكل بنية حاضنة لهم. والمركز العلمي ذاته يشكل بالمفهوم المعاصر شخصية معنوية قابلة لأن تمثل دور المثقف، خصوصا أننا في زمن المؤسسات حيث العمل الجماعي المشترك.

ونفس الأمر نسجله على علاقة المثقف بالسلطة وبالسياسة، أي حدود التماس والتلاقي. أما عن علاقة المثقف بالمؤسسة الإعلامية فإنها أكثر تعقيدا مما خصص لها المؤلف.

لم يشر المؤلف إلى مسألة نخالها جوهرية ولها تعلق كبير بتكوين المثقفين، وهي إفراط أنظمة التعليم في العالم العربي في المقاربة التقنية التي تزدري العلوم الإنسانية والاجتماعية وتعتبر تدريس المهارات الاجتماعية والقيم الحضارية قضايا مفضولة، وهو ما نرصده خصوصا في التكوين ما قبل الجامعي.

خاتمة

أن تصدر تلك المواقف الألمعية والتنويرية التي ضمها الكتاب بين ثنياه من مثقف أمر له دلالته وفحواه؛ لأن الكاتب شخصية لها حضورها الوازن في المشهد الثقافي المعاصر.

ولذا نخلص إلى أن هذا المؤلَّف يفتح آفاقا واعدة أمام الباحثين من أجل تطوير مشاريع فكرية رائدة ووازنة، تتجاوز حالة الركود التي هيمنت على المجال الثقافي.

كما يمكن اعتماد الكتاب موردا أساسيا ضمن الكتابات الساعية إلى إعادة الاعتبار للمدخل الثقافي في عملية الإصلاح، ذلك أن البناء الحضاري مسار وسيرورة وتراكم ومراجعة.

كما تكمن أهمية هذا الصنف من المؤلفات في الانتقال بالعمل الثقافي من الترف الفكري إلى الممارسة الواعية والمستبصرة، وكذا الحاجة إلى تجاوز المُثقافة السطحية التي لا تقوم على أسس متينة من التكوين العميق والاطلاع الواسع.

فقد أصبحت اليوم مواقع التواصل الاجتماعي مصادر للمعرفة، وهي وإن أتاحت فرصا حقيقية للتواصل والتفاعل، لكنها لا تغني عن التكوين العلمي ونهم القراءة، آية ذلك أننا نجد تماهيا خطيرا مع بعض القضايا الهامشية التي تشغل عن القضايا  الحقيقية، وتبدد الجهود فيما لا طائل تحته مما يدل على الوعي المزيف والمسطح.

إن الحديث عن مسؤولية المثقف يستلزم التحلي بالوعي الثقافي والحرص على الحد الأدنى من التجرد والتعالي على كثير من الاختلافات، بغية التركيز على المشترك وضرورة إنهاء حالة الاحتراب والإقصاء المتبادل، لأن ذلك يضعف الممانعة لدى الأطراف المتصارعة لصالح الاستبداد.

_________

[1] محمد حامد الأحمري، مسؤولية المثقف، منتدى العلاقات الدولية، الدوحة، 2018، ص 11.

[2] نفس المرجع، ص 42.

[3] نفس المرجع، ص 37.

[4] نفس المرجع، ص 166.

[5] نفس المرجع، 182- 183.

[6] نفس المرجع، ص 199.

[7] نفس المرجع، ص 209.

[8] نفس المرجع، ص 31- 32.

[9] نفس المرجع، ص 44.

[10] نفس المرجع، ص 45.

[11] نفس المرجع، ص 36.

[12] علي شريعتي، مسؤولية المثقف، دار الأمير للثقافة والعلوم، الطبعة الثانية، 2007، ص 115.

[13] محمد حامد الأحمري، مسؤولية المثقف، ص 102.

[14] نفس المرجع، ص 103.

[15] نفس المرجع، ص 104-105.

[16] نفس المرجع، 104-110.

[17]  نفس المرجع، ص 66.

[18] نفس المرجع، ص 62.

[19] نفس المرجع، ص 63.

[20] نفس المرجع، ص 63.

[21] نفس المرجع، ص 65.

[22] نفس المرجع، 178-180.

[23] نفس المرجع، ص 68.

[24] نفس المرجع، 195.

[25] نفس المرجع، 74.

[26] نفس المرجع، ص 118.

[27] نفس المرجع، 125.

[28] نفس المرجع، 128.

[29] نفس المرجع، ص 128.

[30] علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب.

[31] محمد حامد الأحمري، مسؤولية المثقف، ص 132.

[32] نفس المرجع، ص 132- 136.

[33] نفس المرجع، 142-145-152.

[34] نفس المرجع، 147-148-160.

[35] نفس المرجع، 156.

[36] عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر.

شارك عبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *