مستقبل الديمقراطية في زمن كورونا

مستقبل الديمقراطية في زمن كورونا

فاطمة الزهراء هيرات، باحثة في القانون العام والعلوم السياسية

 

تتعدد الدروس التي نستفيد منها أو نتعلمها في كل يوم منذ ظهور وباء/جائحة كورونا، سواء على المستوى الماكرو-سياسي المتعلق بحالات الترقب الوطني والدولي حول تطورات هذه الجائحة، ومآلاتها وتأثيراتها على مختلف السياسات بل مختلف مناحي الحياة. أو على المستوى الفردي والذاتي بدءا بالالتزام والانضباط للحجر الصحي وقرارات الدولة، وارتفاع منسوب الوعي والمعرفة لدى مختلف الشرائح المجتمعية، وكذا التأقلم مع مخلوق وكائن مجهري تسبب في تحولات كبيرة في وقت وجيز.

يمكن القول أنه في ظل تداعيات جائحة فيروس كورونا، فإن بلدنا أمامه لحظة تاريخية ومفصلية وجب استثمارها من خلال القيام بمراجعات ذاتية لسياساته الداخلية أو في علاقته بباقي الدول، التي تشهد تحولات بنيوية من شأنها إنهاء أو تطوير ظواهر ونظريات سياسية عمرت لعشرات السنين، وبداية أخرى تتغير من خلالها موازين القوى بل تنتزع من دول لصالح أخرى. تغيرات لم تخضع لمحدد الإرادة السياسية لهذه الدول بل بقيت رهينة بإرادة الفيروس الذي يمكن اعتباره بمثابة اليد الخفية للإصلاح السياسي المنشود قياسا على الاستعارة التي ابتكرها الاقتصادي آدم سميث وقام بشرحها في كتابه ثروة الأمم.

حيث أدى الانتشار المُستمر لفيروس كوفيد 19 إلى شل الحياة حول العالم، توفي الآلاف من المواطنين في العديد من الدول التي تصنف ضمن الدول المتقدمة، واعتمدت دول أخرى ما يسمى بمناعة القطيع مضحية بالعنصر البشري قصد الحفاظ على الاستقرار والوضع الاقتصادي، وتوقفت جل المؤسسات التمثيلية والأنشطة العامة والخاصة، بل تم إلغاء وتأجيل العديد من المحطات والاستحقاقات السياسية الراتبة والمفصلية من انتخابات واقتراعات الشعبية في معظم أنحاء العالم.

وفي كل هذا الزخم، عرف المغرب إشادة دولية بالنظر للإجراءات الطبية والاقتصادية والاجتماعية، الاستباقية والمبكرة التي قامت بها الدولة أثناء إقرارها حالة الطوارئ الصحية، بمختلف مكوناتها وفعالياتها خلال هذه الفترة، بدءا بإنشاء صندوق مواجهة داء كورونا المستجد، مرورا بالإجراءات الاستعجالية في عدة مجالات من قبيل إقرار التعليم عن بعد والإجراءات التي واكبته والعمل على توفير الوسائل والدعم اللوجستيكي قصد احتواء وتطويق المرض، وغيرها من الإجراءات والمجهودات المقدرة والاستثنائية التي وجب تطويرها حتى ترقى لمتطلبات الشعب المغربي.

كما عرف المغرب استقرارا سياسيا بالرغم من القصور الذي قد يبديه بعض المتتبعين على مستوى سير المؤسسات التمثيلية بشأن قيامها بدورها الدستوري على النحو المطلوب، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يلاحظ أن العمل البرلماني في ظاهره يشتغل -في الفترة الحالية- بشكل محتشم ومحدود، سواء على المستوى الرقابي حيث انخفض عدد الأسئلة بشكل ملحوظ بل تمحور حول موضوع واحد “كورونا المستجد” في علاقته بتقييم الإجراءات الحكومية لمواجهته، أو على المستوى التشريعي، فبالرغم من محدودية مقترحات القوانين خلال هذه الفترة على المستوى الكمي، غير أنها تبقى دقيقة ومؤثرة على مستوى نوعها لتوافقها مع الوضع الصحي العام. ويمكن أن نعزو هذا التراجع في أداء الوظيفة التمثيلية أساسا إلى الحجر الصحي والإجراءات التي فرضت على ممثلي الأمة لاسيما في مجلس النواب -على عكس الوضع في مجلس المستشارين-.

أما على مستوى المجالس والجماعات الترابية، فبالرغم مبادرات بعض المجالس ومساهماتها المادية والعينية بشكل مباشر في بناء وتجهيز مستشفيات وكذا تخصيص دعم مالي وتحويلات مالية لفائدة العمل الاجتماعي.

إلا أن عمل الجماعات جلها خلال هذه الفترة انحصر في وظيفتين أساسيتين، تتعلق الأولى بحملات النظافة والتعقيم التي أثبتت مختلف الدراسات على المستوى المحلي والدولي أنها تبقى مجرد إجراءات احترازية سطحية الوقع، والوظيفة الثانية تجلت من خلال التنسيق مع الفعاليات المدنية التي ليس لها امتداد سياسي للقيام بعمليات التحسيس وتوعية المواطنين قصد الالتزام بالحجر الصحي والعمل على الاطلاع عن قرب بل وتنفيس الضغط الذي قد يعانيه المواطن. لا سيما بعد إصدار مذكرات من قبل السلطة بوقف دورات المجالس وتحويل بعض المستحقات والميزانيات لصالح صندوق مواجهة كوفيد، بل أكثر من ذلك تم منع جماعات أخرى من القيام بتوزيع الدعم والقيام بأنشطة اجتماعية لفائدة المواطنين، وكذلك في ظل توقيف ميزانيات جماعات ترابية وعدم توصل أخرى بمستحقاتها السنوية.

وهنا يطرح السؤال حول مستقبل الديمقراطية التمثيلية على المستويين الوطني والترابي المحلي ومدى نجاعتها، ومدى تمتين صلتها بالمواطن بشكل مباشر الذي لا يثق في المؤسسات المنتخبة بسبب عدم جدوائيتها وأصبح يلجأ إلى أساليب أخرى لإيصال صوته ورأيه، هذا السؤال يحتاج وقفة تأملية لتقديم جواب شامل من شأنه أن يصبح محددا للمستقبل الديمقراطي لهذا البلد، هذا المستقبل الذي عرف حركات مد وجزر في مختلف المحطات والأحداث التي عرفها تاريخ وطننا.

فقد أضحى من اللازم مراجعة مختلف الأبعاد الدستورية والحقوقية والمؤسساتية، باستحضار حالات التدافع السياسي الميداني التي يتصدرها اليوم التدافع الافتراضي، ولعل ما وقع بخصوص الضغط الفايسبوكي لمواجهة ما مشروع قانون 22.20 المتعلق بشبكات التواصل الاجتماعي الذي سماه البعض بقانون “تكميم الأفواه”وما نتج عن هذا الضغط الشعبي من سحب آني للمشروع، وإن كان مؤقتا، ما هو إلا مثال بسيط عن حركات التدافع حول المواضيع الخلافية التي لم تعد ترتهن على آليات الاحتجاج الميداني والمباشر، كما أن هذا الضغط يبقى ضعيفا بالنظر لمحدوديته لكونه يبقى حبيس فضاءات التواصل الاجتماعي ولا يستثمر الآليات القانونية والدستورية التي جاء بها دستور 2011، والتي من شأنها التأثير في السياسات العمومية من خلال آليات الترافع والاقتراح، تبقى قوته الاقتراحية ضعيفة إلى منعدمة، حيث أن مختلف التدوينات الافتراضية سواء كانت عفوية أو موجهة بناء على أجندات لا تغدو أن تبقى مجرد جمل مبعثرة، تعبر عن حماسة وغضب لحظي ومؤقت، ولا تحمل أفكارا أو بدائل للسياسات المفروضة إلا نادرا.

وهذا ما يجعل ميزان القوى السياسية والاجتماعية غير متكافئ وقاصر عن الإسهام في إشراك الجميع في صنع القرار والتفاعل معه. وبالتالي فتحدي إنجاح المستقبل الديمقراطي يبقى محكوما بالإشراك الفعلي لمختلف الفعاليات سواء كانت منظمة ومؤطرة أو عفوية، واحترام إرادتها الحقيقية، كما أنه لا يجب أن تستخدم جائحة فيروس كورونا كذريعة لتقييد المجال الديمقراطي والمدني أو احترام سيادة القانون والالتزامات الدولية، وكذلك لتضييق حرية التعبير وحرية الصحافة والحق في الوصول إلى المعلومات.

المستقبل الديمقراطي يجب أن ينبني على محدد الثقة بين مختلف الفاعلين، وبالقضاء على منطق عزلة طرف عن الآخر والقضاء على ثقافة المعادلة “الدولة مقابل الشعب” بدعوى قصوره وعدم إدراكه لمصلحته، فالشعب تبقى له الإرادة السياسية العليا ويبقى العنصر الأقوى وإلا لما تهافتت عليه التيارات السياسية للحديث عنه وباسمه.

كما أن الدولة مطلوب منها أكثر من أي وقت مضى الإنصات للجميع والإشراك الإيجابي للجميع، لأن الديمقراطية تبقى معركة مفتوحة تختلف مقوماتها باختلاف المكان والزمان أيضا، والعمل على استثمار مختلف المكتسبات التي عرفتها خلال هذه المرحلة لاسيما الإجماع الوطني، الذي لا ينفك البعض يحاول التشويش عليه لأغراض سياسية لها طبيعة مؤامرة، وبالتالي ضرورة القيام بإجراءات ثقة وسياسات فورية مستعجلة تأخذ بعين الاعتبار روح دستور جاء بنفس ديمقراطي عالي ومستجدات كونية لها أثر محلي لشعب أسمى أمانيه الإحساس بالأمن والعيش الكريم وهذا لن يتأتى إلا بالحفاظ على كرامته وإيلاء الاهتمام بحقوقه.

 

شارك عبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *