مسألة القيم في التنظيمات الجمعوية بالمغرب: نحو مقاربة سوسيولوجية

مسألة القيم في التنظيمات الجمعوية بالمغرب: نحو مقاربة سوسيولوجية

فوزي بوخريص*

 

مقدمة

انتبه علماء اجتماع التنظيمات[1] إلى أن التنظيم عموما، كيان اصطناعي وواقعة ثقافية. بتعبير إرهارد فريدبرغ “التنظيم هو نفسه ثقافة، إضافة إلى أنه منتج لثقافة ما”[2]. لذلك لا يمكن فهم استراتيجيات الفاعلين في استقلال عن السياق الثقافي الذي تنتج داخله، فهي تأخذ معناها وتؤسس وجودها داخل هذا السياق. إن العناصر الثقافية (النماذج، القيم، الرموز، الإيديولوجيا..إلخ)، كما أوضح الباحث غي روشي[3]، تشرط الفعل الاجتماعي في صيغته الفردية أو الجماعية، تنظمه وتحفزه. لهذا يميز علماء الاجتماع في التنظيمات الاجتماعية، كما هو الحال مثلا بالنسبة للجمعيات التي تهمنا في هذا المقام، بين العناصر الثقافية للتنظيم من جهة و بين ما يسمى بالعناصر الهيكلية les éléments structurels، أي ما يرتبط بالأجهزة، الأدوار، العلاقات، السير fonctionnement ومقتضيات التدبير المالي والبشري من جهة ثانية[4].

إذا كان الاهتمام بالجمعيات غالبا ما يتعرض لهذا الشق الثاني، فإنه نادرا ما يتم الانتباه إلى العناصر الثقافية، رغم أهميتها. حيث أنه لا يمكن فهم الفعل الجمعوي والاجتماعي بشكل عام، دون الأخذ بعين الاعتبار العناصر الثقافية، التي توجهه وتنظمه وتحفزه. المقصود بالعناصر الثقافية هنا، مجموع النماذج والقيم والرموز والإيديولوجيات، التي تمثل الثقافة، التي تسبح فيها الحياة الجمعوية. بتعبير آخر، يقصد بالثقافة “مجموع طرق التفكير، الفعل، الشعور، الخاصة بجماعة ما، في علاقتها الثلاثية مع الطبيعة، الإنسان والمطلق أو المتعالي”[5]. الثقافة بهذا المعنى ليست كيانا ثابتا وجامدا، بل هي كيان حي، في تغير مستمر، انطلاقا من “تراث” يتم تبنيه وإعادة تأويله، مع الحفاظ على خصوصية مميزة باستمرار، بحكم أنه لا توجد ثقافة إلا وهي مطبوعة بطابع الخصوصية.

ويرى الباحث نوربير ألتير[6] أن هناك ثلاث مفاهيم يتم تعبئتها بشكل أساسي من أجل الحديث عن الثقافة في التنظيمات، هي التمثلات، المعايير normes، والقيم. فالتمثلات تحيل على الصور التي لدى الفرد حول العالم، كصور مميزة لتجربته الخاصة، تتيح له التواصل مع الآخرين الذين يشاركونه نفس السنن[7]. بينما يشير مفهوم المعيار الاجتماعي إلى “القاعدة الاجتماعية المستبطنة”، من طرف الفرد، كما يمثل ما نقوم به عموما في هذا الظرف أو ذلك.

من بين المفاهيم الثلاثة السابقة المحددة لثقافة التنظيمات، ترتبط مسألة القيم مباشرة بمسألة الهوية، حيث أننا نضفي عادة قيمة على ما يتيح لنا كسب الاعتراف الإيجابي بذواتنا على مستوى ما نحن عليه، ما نقوم به و ما ننسجه من علاقات…إلخ.

تجدر الإشارة إلى أن الحديث عن ثقافة الجمعية أو الجمعيات كقيم ومعايير وتمثلات وغيرها، ليس حديثا عن شيء زائد أو ثانوي، بالنظر إلى البعد الوظيفي أو الحيوي للثقافة بالنسبة للتنظيم الجمعوي، ذلك أن كل جمعية مطالبة بالاعتماد على ثقافة خاصة، كفيلة بخلق التفاهم والاعتراف المتبادلين وعلى إثارة النقاش[8]. لأنه إذا لم يكن هناك حد أدنى من التفاهم بين مكونات الجمعية، فلن تكون هناك حياة جمعوية مستديمة.على الحياة الجمعوية أن تتوفر على ثقافة فعلية للرابطة الاجتماعية. تختلف هذه الثقافة من جمعية إلى أخرى، تبعا للتاريخ الخاص بكل جمعية. لكن يمكن التأكيد، من خلال ما يشير إليه علماء اجتماع الشغل والتنظيمات، على أن هذه الثقافة ترتبط بشروط التعاون، المسارات، التكوين والمبادرات التي تمنح للأفراد تجربة غنية لبناء هوياتهم الخاصة. فطرائق التنشئة الاجتماعية، الإنصات والتضامن، التواصل والاستقلالية، التي تقدمها الحياة الجمعوية على مستوى أنماط تنظيمها، تشكل أساس القوة الشخصية لأعضائها، ولقدرتهم على إقامة علاقات فيما بينهم وعلى التبادل. فالتنظيم الجمعوي هو فضاء للمثاقفةacculturation [9]. تتمخض عن هذه المثاقفة أو التفاعلات التي تتم بين أفراد الجمعية “مدونة قيم”[10] خاصة، تشمل مجموع القواعد والضوابط، التي توجه المواقف والسلوكات الفردية وتؤثر فيها، بل وتعمل على “تنميطها”.

فما المقصود بالقيم؟ ما علاقتها بالتنظيمات، خاصة التنظيمات الجمعوية؟ ما هي أهم تحولات القيم الجمعوية بالمغرب؟ ما طبيعة القيم الجديدة الصاعدة في الحقل الجمعوي بالمغرب؟ ما الذي يميزها عن القيم التي شكلت لزمن طويل هوية العمل الجمعوي؟

أولا: القيم والتنظيمات

يأخذ مفهوم القيم دلالات متعددة، تبعا لتعدد المجالات التي يحيل عليها (الاقتصاد، الاجتماع، الأخلاق، الجمال..إلخ)[11]. لكن من المنظور السوسيولوجي الذي يهمنا في هذا المقام، ليست القيم سوى تفضيلات جماعية أو أشياء مفضلة جماعيا préférences collectives تحيل على طرق في الوجود والتصرف يرى فيها أشخاص أو جماعات “مثلا عليا”[12].

لعل الأساسي في القيم، باعتبارها مثلا عليا، هو كونها تقود و توجه السلوك والفعل الاجتماعي، الفردي والجماعي وهي بذلك تخترق كل المؤسسات وكل الأنشطة الاجتماعية. صحيح أن القيم لا تختزل في مجرد تفضيلات ذاتية صرفة، لأنها تصدر عن نقاشات، صراعات أو توافقات بين فاعلين متعددين، وأنها “تجند” أولئك الذين يؤمنون بها بشكل تضامني. لكن لا ينبغي أن نستخلص من ذلك أن القيم مبادئ بديهية، صريحة وأحادية الدلالة، انطلاقا منها، يمكننا أن “نستخلص” توافقات معيارية خاصة.

عند إيميل دوركايم، كما عند ماكس فيبر، القيم التي يشترك فيها الأفراد، يتمثلونها، ويستبطنونها هي التي تضمن الوحدة الاجتماعية، أي هي التي تضمن تماسك التنظيم الاجتماعي. فما يجعل أعضاء وحدة اجتماعية أو تنظيم معين متضامنين، هو القيم، بل إن درجة تماسك وصلابة التنظيم تقاس بمدى قوة ما يجمع بين أفراد التنظيم من القيم. للقيم شحنة عاطفية باعتبارها ترتبط بمشاعر قوية[13]. يعرف التعلق بالقيم اختلافا في الدرجة، فبعض القيم تتميز بجاذبية وقوة أكثر من قيم أخرى. هذه الشحنة العاطفية هي التي تفسر، بشكل كبير، استقرار القيم وتماسك التنظيم. في نظر ألان تورين[14]، بقدر ما يكون “حقن القيم” «l’injection de valeurs» قويا، بقدر ما تكون هذه الصلابة كبيرة. ذلك هو السبب الذي من أجله تكون التنظيمات التطوعية، السياسية، الدينية أو الإنسانية، صلبة إلى حد كبير، مقارنة مثلا مع تنظيمات أخرى كالمقاولة، التي تتميز بنوع من المرونة. لكن من جانب آخر، فالقيم بقدر ما توحد وتضمن التماسك، فهي يمكن أن تفرق، فينعكس واقع اختلاف القيم أو صراع القيم التي يؤمن بها الأفراد على التنظيم.

غير أن عالم اجتماع آخر هو ريمون بودون[15]، يعتقد أن هناك ميلا لدى علماء الاجتماع الكلاسيكيين إلى المبالغة في قدرة أنظمة القيم على الإدماج الاجتماعي، عندما يعتبرون أن ما يجعل أعضاء مجموعة ما متضامنين، هو القيم المشتركة التي يتقاسمونها. فبودون يتحفظ على هذا التصور، لأن الوحدة الاجتماعية في نظره تستند إلى شيء آخر غير القيم المشتركة، فإلى جانب المعتقدات والانفعالات المشتركة، هناك دور المصالح أيضا.

في هذا السياق نفهم كيف أن القيم لا تحيل فقط على “مثل” نتطلع إليها، بل لها بالأساس وظائف عملية: إنها تقود، تلهم، توجه وتنص على أحكام وخيارات وآراء وأعمال فردية وجماعية. على سبيل المثال: قد تكون فكرة أو فعل الانخراط في جمعية لمحاربة الفقر أو فرصة التكفل بالأشخاص المسنين، حاضرة بقوة عند شخص يشكل لديه التضامن الاجتماعي أو الأسري قيمة عليا.

بشكل عام يجب التأكيد على أن القيم ليست سوى عنصرا في عملية التحفيز على العمل. تتوقف أهمية هذا العنصر على طبيعة الأوضاع والشروط التي يتواجد فيها الفرد أو الجماعة. فيمكن للأشخاص أن تحفزهم مصالحهم المالية أو السياسية، التي يمكن تبريرها باللجوء إلى هذه القيمة أو تلك.

الحديث عن القيم، هو حديث عن التعدد كذلك، بل التعدد متضمن منذ البداية في المفهوم: القيم[16]، بحيث نتحدث باستمرار عن القيم بصيغة الجمع. لهذا فمن الصعب الحديث عن قيم في مجتمع يفرض تقاسم نفس المثل ونفس الآراء بين كل أفراده، كما هو الحال في المجتمعات المنغلقة والشديدة التجانس على الصعيد الاجتماعي والثقافي أو حالة الأنظمة الشمولية والاستبدادية التي تفرض إيديولوجية سياسية واحدة وتعتمد مركزة شديدة لإنتاج ونشر القيم على مستوى أجهزتها الإيديولوجية (التلفزيون والمدرسة على وجه الخصوص) تحول دون تعدد القيم وسريانها وانتقالها بحرية. فلا معنى للقيم في مجتمع لا يعرف تعددا للآراء والمواقف والمثل وتنوعا على مستوى أشكال الوجود والفعل والتفكير.

إن الدولة الديمقراطية هي تلك التي تلعب دور الضابط والمنظم للتوترات والصراعات بين القيم وبين الأفراد والجماعات التي تؤمن بهذه القيم، أكثر من لعب دور المنتج والناشر المركزي للقيم. نفس الأمر ينطبق على تنظيم بعينه.

القيم لا تعرف تعددا فقط، بل تراتبية، تبعا لمدى تشبتنا واقتناعها بها. فهناك سلم للقيم، وبالتالي صراعا بين القيم. ليس كل الناس يقبلون بإجماع سلم القيم السائد، فهناك باستمرار تناقضات وتعارضات تخلق توترات على مستوى العلاقات الاجتماعية الداخلية لأسباب سياسية واقتصادية وإيديولوجية أو غيرها. فينتج عن ذلك صراعا مستمرا بين القيم على مستوى المجتمعات فيما بينها وبين الجماعات والتنظيمات المشكلة لكل مجتمع، بل وبين الأفراد المشكلين لكل جماعة أو تنظيم. فنظريا كل القيم متساوية. لكن عمليا، الأمر بخلاف ذلك، لأن القيم لها خاصية حيوية، لأنها تمنح وجودنا معنى. أما ما يجعل القيم تبدو مختلفة بالنسبة لنا، فهو درجة إيماننا بها. إذ رغم أننا نقيم ايجابيا أشياء مختلفة، فهذه الأشياء ليست لها نفس الأهمية بالنسبة لنا، تبعا لاعتقادنا ببعضها أكثر من البعض الآخر. فتراتبية القيم، تخضع لتراتبية قوة الاقتناع و الاعتقاد. لهذا فهناك صراعا بين أنظمة القيم التي يدافع عنها أشخاص أو جماعات مختلفة، وبين القيم المشكلة لكل نظام قيمي، تبعا لمدى ارتباطنا واقتناعنا بها.

ثانيا: القيم الجديدة الصاعدة في الحقل الجمعوي بالمغرب

الواقع أن تطور المجتمعات والتنظيمات الاجتماعية، يفترض تطورا وتحولا على صعيد القيم أيضا[17]: فتطور المجتمع من مجتمع تقليدي بمؤسسات تقليدية (القبيلة، الزاوية، الجماعة، الأسرة الممتدة..إلخ) إلى مجتمع حديث (المقاولة، الإدارة، تنظيمات المجتمع المدني بما فيها الجمعيات)، يترافق مع تحول على مستوى القيم. وتتحول القيم أيضا نتيجة تطور كل تنظيم اجتماعي. ومن هنا، فأنظمة القيم تخضع للقطيعة، المراجعة، التحول والتكيف، تبعا لتغيرات محيطها.

في هذا الإطار يلاحظ بأن دينامية المجتمع المغربي[18]، خصوصا خلال العقدين الأخيرين، قد أغنت وزادت من تعقد القيم، بحيث أصبحنا اليوم نتحدث، بفعل التحولات التي شهدها المجتمع على جميع المستويات، و نتيجة للتوجهات السياسية والاقتصادية السائدة على المستويين الوطني والدولي، عن قيم جديدة داخل المجتمع وداخل الحقل الجمعوي، من قبيل: التسامح، الشفافية، الحوار، المواطنة، المساواة بين الرجل والمرأة، التعدد الثقافي. بالموازاة مع ذلك أصبح ما هو مضاد لهذه القيم، موضوع إدانة: الرشوة، التمييز الجنسي، التعذيب، العنف الزوجي..إلخ. طبيعي أن الجمعيات هي جزء من هذه الدينامية المجتمعية، بمعنيين، فهي نتاج لهذه الدينامية مثلما هي منتجة لها، إذ كما قال إدغار موران إننا عموما “ننتج مجتمعا، ينتجنا”[19].

هكذا يلاحظ ميل الجمعيات اليوم إلى تبني قيم جديدة مغايرة للقيم التي تأسس عليها الفعل الجمعوي، والتي شكلت لزمن طويل هوية الجمعية. حيث هناك تحول ظاهر في عمل عدد من الجمعيات من الأنشطة الجمعوية المجانية والقائمة على العمل التطوعي، نحو العمل الجمعوي المأجور والأنشطة والمشاريع الممولة، كما أن هناك عموما ميلا لدى الجمعيات اليوم إلى تبني قيم جديدة مغايرة للقيم التي تأسس عليها الفعل الجمعوي. تلك القيم التي شكلت لزمن طويل الهوية الجمعية. من نتائج ذلك أن العمل الجمعوي تحكمه أكثر فأكثر قيم الفعالية في التدبير أو التدبير وفق النتائج، الإدارة الرشيدة، الجودة في الخدمات إلخ.. وإن كانت غالبية الجمعيات ما تزال تحافظ على ارتباطها القوي بقيمها وأشكال تنظيمها الأساسية، ليس دائما كاختيار وجودي من قبل الجمعية، وإنما في أغلب الأحيان بسبب قلة الإمكانيات ولضعف رأسمالها الاجتماعي، الذي لا يتيح لها الولوج إلى الدعم والتمويل[20].

عموما إذا تغيرت معتقداتنا وقناعاتنا، طبيعي أن تتغير تقييماتنا أيضا، أي تتغير قيمنا. فقيمة شيء ما ليست جوهرا أزليا، ثابتا ومتطابقا مع ذاته باستمرار، ومحددا بشكل قبلي. بل قيمته ترتبط بالشروط الموضوعية، وباختياراتنا، بحيث يكون هذا الشيء جيدا أو سيئا تبعا لتغير هذه الشروط وهذه الاختيارات. في هذا الصدد، نشير على مستوى الحقل الجمعوي في المغرب، إلى الاهتمام المتزايد بمسألة القيم في التنظيمات الجمعوية، خلال السنوات الأخيرة الماضية، حيث عملت وزارة “التنمية الاجتماعية والأسرة و التضامن” بمعية عدد من الجمعيات والشبكات الجمعوية الوطنية (الفضاء الجمعوي، الجمعية المغربية للتضامن والتنمية AMSED وملتقى الجمعيات) على فتح نقاش بين الجمعيات بالمغرب حول قيم وأخلاقيات العمل الجمعوي، انتهى إلى صياغة ميثاق أخلاقي للجمعيات charte éthique des association سنة 2007، ينص على أهم القيم المؤسسة للعمل الجمعوي كونيا، التي يمكن إجمالها كما يلي:

– احترام القيم الأساسية وحقوق الشخص البشري كما هي متعارف عليها عالميا: احترام الكرامة الإنسانية، رفض التمييز على أساس الجنس، العرق أو الدين، احترام حقوق الأطفال، احترام التنوع الثقافي، احترام البيئة، احترام مبدأ الحل السلمي للنزاعات.

– النهوض بالديمقراطية، المواطنة، الحداثة والدفاع عن الحريات الفردية والجماعية.

– النهوض بالتنمية البشرية المستديمة للبلد في كل أبعادها.

– احترام الطابع اللاربحي للفعل الجمعوي.

– النهوض بالتسيير الديمقراطي للجمعية.

– احترام الدقة والشفافية في التدبير الإداري والمالي للجمعية.

إن التركيز على القيم، باعتبارها تشير إلى عالم التمثلات، لا يعني أن الإنسان عبد لعالم مثالي، مفارق للعالم الواقعي الملموس، الذي هو عالم المصالح والتنافس والصراع. فالإنسان مبدئيا لا تحركه لا القيم وحدها ولا المصالح وحدها، بل تحركه متغيرات عدة، يمثل فيها القيمي والمصلحي جزءا فقط. مثلما أشرنا إلى ذلك سابقا، فالقيم ليست سوى عنصر في عملية التحفيز على العمل. تتوقف أهمية هذا العنصر على طبيعة الأوضاع والشروط التي يتواجد فيها الفاعل. إذ يمكن للشخص أن تحفزه مصالحه الشخصية المالية أو السياسية، التي يمكن تبريرها باللجوء إلى هذه القيمة أو تلك. ومعنى ذلك أن عالم المنظمات غير الحكومية ليس عالما للمثل أو عالما فاضلا، فخلف عالم المنظمات غير الحكومية الفاضل قد تختفي مصالح خاصة، فالعديد من هذه المنظمات هي في الواقع “منظمات جد حكومية”[21] des organisations très gouvernementales، بمعنى أنها لا تقيم المسافة المطلوبة مع العمل الحكومي، بل تنخرط في مناصرة القضايا والمشاريع والسياسات الحكومية، مقابل امتيازات وخدمات شخصية في الغالب. كما يمكن لهذه التنظيمات أن تتحول إلى وسيلة مفضلة للتهرب الضريبي، ولنهب الأموال ولممارسة الوصاية السياسية والإدارية أو الزبونية. إذا كان التهرب الضريبي أو نهب الأموال، أمرا مرفوضا ومدانا في ذاته، فكيف إذا كان ذلك باسم التطوع والنزاهة، والقيم النبيلة التي تمثل أساس العمل الجمعوي؟، فشتان مثلا بين المختلس الذي يختلس مال الغير أو المال العام دون ادعاء أي شيء، وبين المتطوع الذي يختلسه بورع “des bénévoles bénévoleurs”[22].

خاتمة

من خلال تناولنا للقيم في ارتباطها بالعمل الجمعوي، نشير إلى أن العمل الجمعوي ذاته، أصبح قيمة، بل من القيم الأكثر انتشارا في الوقت الراهن. بتعبير آخر أضحى من القيم الجديدة والصاعدة في المجتمع[23]. ذات الملاحظة تؤكدها الباحثة مارتين بارتيليمي، فيما يتعلق بالمجتمع الفرنسي، إذ لاحظت أنه خلال العقود الأخيرة عرفت مشاركة الفرنسيين في الأحزاب والنقابات تراجعا، في حين شهد انخراطهم في الجمعيات تطورا مهما[24].

إن فعل الانخراط في جمعية ما، هو تعبير عن الوعي بأهمية “التطوع”، باعتباره تجسيدا للحرية الجمعوية كقيمة إنسانية مركزية في وقتنا الراهن[25]، وكأساس لمجموعة من الحريات الأخرى: حرية التعبير، المشاركة إلخ… وعلاوة على الإنخراط في الجمعية كقيمة في حد ذاته، فإن “الانخراط في جمعية ما لمحاربة الفقر أو للرعاية الاجتماعية للأشخاص الذين في وضعية صعبة” أو غيرها، هو تعبير عن الإيمان بقيم التضامن، التعاون، التضحية، الاستقلالية، اللاتمييز، احترام الاختلاف إلخ.. تلك القيم المحايثة للعمل الجمعوي.

لكن التطوع ليس قيمة في ذاته فحسب، بل هو قيمة بالنظر إلى ما يتيحه للمتطوع، الذي يبحث كذلك، من خلال عمله داخل الجمعية، عن الاندماج والاعتراف الاجتماعيين، عبر المشاركة الحرة والتطوعية في نشاط جماعي، وعن وسيلة لممارسة حقوقه ومسؤولياته باعتباره فردا داخل مجتمعه، ولتحفيزه على اكتساب معارف ومؤهلات جديدة طوال حياته، وتطوير قوته الشخصية واستقلاله وإبداعيته.

__________

* أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل- القنيطرة.

[1] غالبا ما ينظر إلى التنظيم الاجتماعي، في أدبيات سوسيولوجيا التنظيمات، ككيان اجتماعي مصطنع أو مؤسسة ثقافية، أبدعها الإنسان للاستجابة لحاجاته. بتعبير آخر التنظيم هو أداة تقنية أبدعها الإنسان من أجل تعبئة طاقاته وتوجيهها نحو غايات محددة. وإن كان هناك من يعتبر بأن أصحاب التحليل الاستراتيجي، بعد أن أكدوا في بعض دراساتهم الأولى على البعد الثقافي لسير التنظيمات، لم يقوموا بتطويرها في اتجاه تأسيس تحليل ثقافي للتنظيمات، بل أهملوا في دراساتهم المتأخرة، متغير الثقافة، إلى درجة تبني أحيانا موقف مناهض لها. أنظر :

Philippe d’Iribarne, «analyse stratégique et culture un nécessaire retour aux sources» in Revue française de sociologie, janviers-mars, N 46-1 2005, p151-170.

Erhard Friedberg, «la culture «nationale» n’est pas tout le social», in Revue française de sociologie, janviers-mars, N 46-1, 2005, p179.

[2] Erhard Friedberg, «la culture «nationale» n’est pas tout le social», in Revue française de sociologie, janviers-mars, N 46-1, 2005, p179.

[3] يقصد بهذه العناصر الثقافية أيضا “الرمزية symbolisme التي تسبح فيها الحياة” الجمعوية:

Guy Rocher, introduction à la sociologie générale l’organisation sociale, éditions HMH, Paris, 1968 ,p8.

[4] Ibid; p8.

[5] Sélim, Abou, L’identité culturelle, éditions Anthropos, 2eme édition, Paris, 1986, p14.

[6] Norbert, Alter et Simonet, Maud, sociologie du monde du travail, éd quadrige-Puf, 2006, p103.

[7] كما هو معلوم، أظهرت الأبحاث والتجارب في مجال علم النفس الاجتماعي بأن التمثلات ليست نتاجا للعلاقة المباشرة التي يقيمها الفرد مع العالم، وإنما نتاج لعلاقة، غير مباشرة مع العالم، تتوسطها المعايير الاجتماعية. بتعبير آخر، فتمثلاتنا للعالم بقدر ما هي نتاج لإدراكاتنا، بقدر ما هي نتاج للمعايير الاجتماعية. وانطلاقا من ذلك، فإن الأفراد، داخل التنظيمات وفي عالم الشغل، وتبعا لتجربتهم الاجتماعية، يتمثلون الأشياء بطريقة خاصة. بحيث أن كل جماعة سوسيومهنية داخل التنظيم، تنتج تمثلات خاصة بتجربتها.

أنظر:

Norbert, Alter et Simonet, Maud, sociologie du monde du travail, p104.

[8] Jean-Louis, La ville et Renaud, Sainsaulieu, «L’association: une liberté propre à la démocratie», in, sociologie de l association: de l organisation à l’épreuve du changement social, éd Desclée Brouwer-collection «sociologie économique», paris, 1997, pp 35-68.

[9] Norbert ,Alter et Simonet, Maud, sociologie du monde du travail , p102.

[10]  Jean-Louis, La ville et Renaud, Sainsaulieu , « L’association : une liberté propre à la démocratie », p321.

[11] من المعاني التي يأخذها مفهوم القيم، نذكر ما يلي:

– في المجال الاقتصادي: يأخذ مفهوم القيمة معنى نسبيا، حيث يمكن أن يكون لشيء قيمة، تبعا لإمكانية استعمالنا له أو للمنفعة التي تكون له أو لكون الشيء مرغوب فيه أو ممتع. وهذا التقييم هو محدد ذاتيا، لكنه يكشف غالبا عن طابع الجماعة وتأثيرها.

– في المجال الاجتماعي: لا تبدو القيم كقيم موضوعية، وإنما كقيم ذاتية عامة أو بتعبير أدق قيم بين ذاتية: فالقيم لا تختزل في مجرد تفضيلات ذاتية صرفة، لأنها تصدر عن نقاشات، صراعات أو توافقات بين فاعلين متعددين:على سبيل المثال، النبل والذكاء والجمال أشياء مرغوب فيها، وما ندركه فيها يرتبط بوجهة النظر التي انطلاقا منها نحكم على الشيء، وبتفاعل وجهة نظرنا مع وجهات نظر الآخرين.

– في مجال الرياضيات: للقيمة معنى مطلقا. نتحدث عن “قيمة مطلقة”، وتصلح للتعبير عن كمية في استقلال عن حالتها الموجبة أو السلبية.

– وفي مجال الأخلاق: تستعمل القيمة بمعنى مطلق، وترتبط بفكرة القيمة فكرة الكونية والوحدة. يميز كانط في “أسس ميتافيزيقا الأخلاق”، بين “ثمن” شيء، والذي يمثل ما ندعوه “قيمته الاستعمالية”. وبين “الكرامة” المميزة للكائن العاقل والتي هي وحدها يمكن أن تسمى “قيمة مطلقة”، التي هي أيضا قيمة داخلية مطلقة.

أنظر:

P, Mathias, «Valeur», in L’Encyclopédie philosophique universelle –vol 2– les notions philosophiques dictionnaire, éd PUF -1990-p2690.

[12] R ,Boudon.  et F, Bourricaud, «Valeur», dictionnaire critique de la sociologie, éd Quadrige-Puf, 2000, p664.

[13] رحمة، بورقية وآخرون، “التقرير التركيبي للبحث الوطني حول القيم”، ضمن القرص المدمج الملحق بالمؤلف الجماعي، المغرب الممكن: 50 سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2025، مطبعة دار النشر المغربية، 2006.

[14]   Alain, Touraine , «rationalité et politique dans l’entreprise» , in L’Entreprise et l économie du 20siécle, T 2 édition Puf , Paris, 1966, pp138-174.

[15] في الواقع الأمر يتعلق بتصور كل من بودون وبوريكو، واختصارا فقط نشير إلى بودون:

R ,Boudon.  et F , Bourricaud, «Valeur», dictionnaire critique de la sociologie, op.cit , p 668.

 

[16] Ibid, p 665.

[17] Ibid, p669.

[18] رحمة بورقية وآخرون، “التقرير التركيبي للبحث الوطني حول القيم”، مرجع سابق.

[19] Morin ,Edgar, sociologie, éd Fayard, Paris, 1984, P 21.

[20] Jean-Louis, La ville et Renaud, Sainsaulieu , «L’association: une liberté propre à la démocratie», op.cit, p 275.

[21] Alain, Caillé et Jean-Louis, Laville, association, démocratie et société civile, éditions la Découverte et Syros, paris. 2001, p7.

[22] Ibid , p7.

[23] أظهر البحث الوطني حول القيم أن العمل الجمعوي صار أكثر جذبا وأهمية وتثمينا من العمل داخل الإطارات التقليدية للعمل السياسي: الأحزاب والنقابات. أنظر:

رحمة بورقية وآخرون، “التقرير التركيبي للبحث الوطني حول القيم”، مرجع سابق.

[24] Martine, Barthélemy, association: un nouvel âge de la participation ?, éd presses de sciences po ,paris –collection académique, 2000, p 16.

[25] Ouvrage collectif, Guide de la liberté associative dans le monde :les législations des sociétés civiles de 138 pays , sous la direction de Michel doucin , éd la documentation française, paris, 2000, p 3.

شارك عبر
Categories: دراسات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *