في التطبيع والمطبعين.. من مناهضة التطبيع إلى مواجهة التصهين من المسافة صفر

في التطبيع والمطبعين.. من مناهضة التطبيع إلى مواجهة التصهين من المسافة صفر

امحمد الهلالي

رئيس المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة

يشكل إعلان المغرب استئناف  علاقاته الرسمية مع الكيان الصهيوني، بداية لمرحلة جديدة في التاريخ الحديث للمنطقة، وهي مرحلة ليس فيها جديد نوعي ما عدا الانتقال ببعض المبادلات التجارية والاقتصادية القائمة من السرية إلى العلنية، ومن التطبيع الخفي إلى التطبيع المُعلن والمباشر عبر تبادل التمثيليات الرسمية، وترقية المعاملات وتوسيعها لتشمل ميادين سياسية ودبلوماسية بعد أن ظلت حبيسة بعض المجالات الفلاحية والتجارية والفنية والرياضية، ثم إعطائها زخما اكبر بمحاولة نقلها من الدائرة الضيقة لبعض النخب التي رهنت وجودها أو ربطت بعض مطالبها ومصالحها بسياسة الكيان الصهيوني الذي يستثمر في تحويل ثروة التنوع إلى بؤرة توتر ويسعى إلى تحويل التعدد من فرصة إلى تهديد، ومن ثم تلجأ هذه النخب إلى الاستقواء بأدوات هذا الكيان وآلياته للضغط من أجل تحقيق أغراضها الخاصة.

لكل هذا فإن التطبيع بالصورة التي يتم بها وبالحجم الذي أعلن عنه لن يصمد طويلا، وسيكون له نفس مآل الموجة الأولى التي أعقبت مسار الاستسلام الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن ينقلب عليه الكيان الصهيوني وعلى عرابيه الذين توزعوا بين المنافي والسجون والاغتيالات والإقصاء كما هو الشأن  بالنسبة للأحرار منهم كابي عمار والبرغوتي، أو ينغمس في عمالة  التنسيق الأمني ضد رفاق الدرب وضد المقاومة الفلسطينية مثل دحلان وغيره.

لذلك فالمهمة الأساسية في مناهضة التطبيع، تتمثل في السعي إلى عزل هذه الخطوة التطبيعية وإبقائها هامشية ومحدودة وشكلية في مستواها الرسمي المفتقد إلى العمق الشعبي وبدون آثار، وذلك تمهيدا لإفشالها وتحضيرا لإسقاطها كما وقع للخطوة التي سبقتها في المرحلة المنصرمة.

وتبعا لهذه التطورات فإن رفض التطبيع واستراتيجية مناهضته يتعين أن تأخذ بعين الاعتبار هذه التطورات وأن تدرك كيف يمكن الحد من مفاعيل تأثيرها الآني والمستقبلي، وأن تحضر نفسها لمرحلة جديدة باستراتيجية تتناسب مع وضع هذا الاختراق الصهيوني للمنطقة وما سينجم عنه من تطورات داخل المغرب وفي محيطه.

من هنا بات ملحا العمل على تبني استراتيجية جديدة تجمع في الآن ذاته بين مواصلة الجهود، المتعلقة بكشف وقائع التطبيع وفضح المطبعين واليقظة ضد مخاطره والتحذير من تهديداته الاقتصادية والتجارية والأمنية والنفسية، وما يمكن أن يجر إليه من فوضى وخراب  للنسيج الاجتماعي والإثني، ومن تدمير للوعي الثقافي واختراق قيمي وفكري وديني عقدي ببلادنا، وبين السعي إلى إدماج عناصر جديدة في استراتيجية مواجهة التطبيع والمطبعين، وهي عناصر مواجهة الكيان الصهيوني من المسافة صفر، سواء في ساحات البلد الذي حقق فيه المطبعون بعض الاختراق الفوقي أو في ساحات الفعل الإنساني والحقوقي المشترك بين أحرار العالم من مناهضي التطبيع ورواد المقاومة الشعبية للتطبيع في مصادره وأسبابه وتجلياته.

وهي استراتيجية يتعين أن تجيب على سؤال كيف يمكن قلب التطبيع ضد المطبع وتحويل الاختراق الصهيوني الفوقي إلى اختراق نوعي مضاد تُحقق فيه مساعي مقاومة التطبيع ومناهضة التصهين نتائج ملموسة لفائدة توريث مظلمة فلسطين في الوعي الجمعي للأمة ولدى الأجيال القادمة وتثبيت الطبيعة العنصرية والإجرامية للكيان الصهيوني والطبيعة الاستعمارية والاستكبارية والهيمنية للقوى الامبريالية التي زرعته في كيان الأمة لحماية مصالحها واستدامة ضعف وتبعية الأمة لها، واستنزاف طاقاتها وتأجيل تحررها ونهضتها .

ومن جهة أخرى كيف يمكن قلب فرح بعض النخب المتصهينة بالاختراق الصهيوني للمغرب الرسمي إلى غصب شعبي ضد المطبعين والمتصهينين وضد التطبيع والتصهين، وكيف يمكن تحويل المصالح التي يحلم بتحقيقها الكيان الصهيوني وحاضنته في المنطقة المخترقة إلى خسارات استراتيجية ذات بعد وآثار نوعيين على حقيقة الصراع ومآلاته المستقبلية.

لذا فان الأسئلة المفتاحية اليوم في هذه الاستراتيجية الجديدة ينبغي أن ينصب على الوعي بمرامي هذه الهرولة نحو التطبيع ولماذا هذه العجلة وما طبيعة المكاسب التي يمكن أن يحققها الصهاينة والمتصهينون اليوم وغدا.

لقد سعى  الكيان الصهيوني خلال المرحلة السابقة إلى تحقيق رهانين أساسيين هما؛ رهان الأمن من خلال معادلة الردع العسكري والقوة الاقتصادية والتفوق العلمي، ثم رهان تعزيز مشروعية القوة التي فرضتها القوى الاستكبارية المهيمنة على المنظومة للدولية بمشروعية أخلاقية، وذلك عبر استكمال الاعتراف الدولي بانتزاع اعتراف رسمي من النظام العربي، أو عبر التطبيع السياسي الثنائي على وجه الخصوص ومن ثم الانتقال من وجود بالقوة المفروضة في المنطقة إلى وجود مقبول، بل وضروري لاستقرار ونماء هذه المنطقة.

وإذا كانت المقاومة في فلسطين قد تمكنت عبر تاريخها من حرمان الكيان الصهيوني من رهان الأمن في بعده الشامل عبر تحقيق معادلة توازن الردع، فإن مناهضة التطبيع يمكنها أن تحرمه أيضا من تحقيق رهان المقبولية والمشروعية الأخلاقية التي يتوسل إليها بكل الوسائل بما فيها تزييف الدين وتزوير التاريخ واغتصاب الجغرافيا والاستثمار في ابتزاز للدول والسعي إلى مقايضتها في مصالحها.

ولهذه الغاية يتعين التفكير بأفق مغاير في استشراف المرحلة المقبلة من استراتيجية مناهضة التطبيع بمنهج وغايات ووسائل جديدة ومغايرة.

وفي هذا الإطار يمكن استحضار بعض النماذج النوعية في المناهضة وعلى رأسها نموذج المقاومة الذي تنهجه الحركة العالمية لمقاطعة الكيان الصهيوني أكاديميا وتجاريا (BDS)، وكذا النموذج الشعبي الذي تتبعه حركة مناهضة التطبيع بمصر وأخيرا النموذج التركي الرسمي والشعبي في مقاومة التطبيع والتصهين.

إذ في النموذج الأول وبالرغم من العلاقات التي تجمع الدول الغربية والأوربية بالكيان الصهيوني إلا أن ما تسبب فيه الحركة المعارضة للكيان الصهيوني ومستوطناته في صفوف أحرار المثقفين والفنانين والأكاديميين تعد أكثر إيلاما للكيان الصهيوني وأكثر ضررا على الصورة التي يرغب في ترويجها عن نفسه في صفوف الرأي العام، وبفضل ذلك يتم تسيير مظاهرات مليونية في كبريات العواصم الأوربية لمناهضة العدوان الصهيوني في كل حروبه ضد الفلسطينيين أو بمناسبة بعض الانتهاكات الحقوقية ضد النشطاء أو السجناء. وبفضل هذه الحركة المناهضة للصهيونية يتم منع بعض المعاملات التجارية وملاحقة الشركات التي تتجر في بضائع ذات منشأ نابع من المغتصبات والمستوطنات  بالأراضي الفلسطينية، وبفضلها كذلك يتم ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة ومنع تنقلهم في العديد من بلدان الغرب خوفا من الملاحقات القضائية.

وهو ما يعني أن التطبيع الرسمي أو حتى الاعتراف لا يمنع حركة مناهضة التصهين من تحقيق أهدافها ضد الكيان الصهيوني وضد سياساته الإجرامية.

أما في مصر التي عقد نظامها اتفاقية بشكل مبكر  فإن القوى الحية استطاعت أن تبقي هذه العلاقات شكلية وبدون آثار على الوعي الشعبي.

أما في تركيا التي ورث قادتها الجدد علاقات اعتراف كاملة بالكيان الصهيوني المحتل ومعها ورثوا علاقات تعاون كاملة بينهما تشمل مختلف مجالات العمل السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري وغيره إلا أن ذلك لم يمنع من تحويل هذه العلاقات إلى نقمة على الكيان العنصري ومنصة متقدمة لمناهضة سياساته العدوانية سواء في وقت الحروب العدوانية أو أثناء الحصار الغاشم على قطاع غزة.

وها هي العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني تتحول إلى مركز متقدم لمناهضة السياسات العنصرية والاعتداءات الآثمة على الفلسطينيين شعبا وأرضا وحقوقا بشكل ينقل هذه العلاقة إلى عنصر إضرار بالكيان وبصورته، وخسارة له ولمصالحه، وذلك في اللحظات القصيرة التي يتم فيها استئناف هذه العلاقات التي أصبحت تنقطع أكثر مما تستأنف من الجانب التركي في إطار جهود تركيا لوقف عدوان عسكري غاشم أو مساعيها لتكسير حصار ظالم أو في مساعيها لتوسيع دائرة الإدانة في المنتظم الدولي للانتهاكات الجسيمة للحقوق التاريخية أو لحقوق الإنسان الفلسطينية أو ضد سياسة التهويد والاستيطان التي ينهجها الكيان الصهيوني أو في إطار الدعم السياسي والمعنوي والاجتماعي والشعبي  للمقاومة الفلسطينية.

وقد تابع العالم الحملات الدبلوماسية من أعلى هرم الدولة وأذرعها الدبلوماسية وفعالياتها الشعبية لمناهضة الكيان الغاصب في المحافل الدولية وتضييق الخناق عليه في المنتديات العالمية وفضح جرائمه وإدانة ممارساته، وجره في أكثر من مرة إلى الاعتذار عن غطرسته وتسول عودة العلاقات المقطوعة معه.

فلأول مرة تتحول علاقات موروثة مع الكيان الصهيوني في بلد مسلم إلى لعنة على الصهاينة يندمون على وجودها ويتمنون نهايتها.

إن بمقدور المغاربة لما لهم من تراكمات تاريخية قديمة وحديثة ولما لهم من خبرة في مناهضة التطبيع ومن حيوية يتمتع بها المجتمع المدني المناهض للاحتلال الصهيوني وكذا ما يتحقق من إجماع حول القضية الفلسطينية، ما يؤهل بلدهم ليتحول هو الآخر إلى منصة متقدمة لمقاومة الاحتلال الصهيوني ومناهضة التصهين في الوعي والممارسة من حيث ـراد الصهاينة أن يحولوا المغرب إلى بؤرة للتطبيع، مما سيبقي هذا التطبيع الرسمي الجاري اضطراريا وفوقيا ومجرد علاقة شكلية من غير عوائد أو فوائد للمطبعين والمتصهينين على السواء، ومن ثم العمل على إفراغ هذه الخطوة التي تم الإعلان الرسمي عنها بضغط من الإدارة الأمريكية ضمن معادلة التطبيع مقابل الاعتراف من محتواها؛ بل بالإمكان أيضا تحويل الساحة المغربية إلى موقع متقدم لمناهضة الصهيونية والعنصرية والاحتلال وتعزيز صمود المقاومة الفلسطينية ودعم حرمات التحرر ضد الغطرسة والاستكبار والاستعمار القديم والجديد.

إن أول خطوة في الاستراتيجية الجديدة ضد التطبيع هي السعي إلى فك الارتباط ببن قضية الصحراء وقضية فلسطين وبين سيادة المغرب على كامل وحدته الترابية وخطوة الاختراق الصهيوني للأرض المغربية وعدم الانجرار إلى ما يسعى إليه بعض المتصهينين من تلازم بين المصالح الحيوية للمغرب وبين الدعم الموهوم للكيان الصهيوني والقوى الداعمة له.

فالمدخل الأكثر فائدة هو جعل الدفاع عن القضية الوطنية متلازما مع الدفاع عن القضية الفلسطينية وجعل المدخل المبدئي والقيمي والنضالي هو المدخل الأثير لنصرة المصالح الحيوية للمغرب وفي مقدمتها القضية الوطنية واستكمال الوحدة الترابية وفي هذا الصدد يجب أن يظل مقاومو التطبيع في صدارة الكفاح من اجل استكمال الوحدة الترابية وبسط السيادة الوطنية على كامل التراب المغربي.

أما الخطوة الثانية فتتمثل في الرهان على الوعي الشعبي واستثمار حضوره المتنامي والوازن في المعادلة السياسية والإعلامية خاصة في بعض القضايا الأساسية، ذلك أن حالة الوعي هي التي أسقطت عددا من المشاريع التي ظهرت متناقضة مع المزاج العام.

وفي هذا الإطار يمكن البناء على التراكمات التي حققها الوعي الشعبي من خلال المقاطعة الشعبية لبعض البضائع لفرض مواجهة الأسعار والغلاء أو في المجال الإعلامي لإسقاط مشروع تكميم الأفواه وإجهاض التراكمات في مجال حرية التعبير أو في مناهضة محاولة عودة الاستبداد والفساد.

إن الشرط الأساسي في هذه الخطوة هو عدم تسييس الوعي الجماهيري والانخراط فيه بدون لافتات أو انحيازات، وبشعارات بسيطة ومطالب واضحة والاحتراز أساسا من أي خطاب يمكن أن يؤدي إلى تقسيم المغاربة أو الاستدراج إلى معارك استفزازية تجر إليها بعض النخب المفتقدة إلى العمق الشعبي.

أما الخطوة الثالثة في هذه الاستراتيجية  فتتمثل في السعي إلى فضح الأساطير التي تبنى عليها خيارات الهرولة والتطبيع، وذلك من خلال تقديم حواصل التجارب المطبعة وآثارها المدمرة ونتائجها المعاكسة والمناقضة للأهداف المعلنة، وكذا نتائج الخراب الذي أحدثه التطبيع على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيمية والأمنية والسياسية للبلدان التي طبعت بشكل مبكر.

وفي هذا المجال يمكن تتبع النماذج المطبعة والكشف عن حصيلة استفداتها من الوعود الزائفة التي قدمت لها، وفي المقابل الوقوف على حجم الخسائر التي جناها عليها  التطبيع.

أما الخطوة الرابعة في الاستراتيجية الجديدة فتتمثل في العمل على فك الارتباط بين المتصهينين وبين مصالح المغرب، وإظهار أن الارتماء في أحضان الصهيونية لن يؤدي سوى إلى الاستقواء على المغرب وعلى مصالحه، وهوانه لا يؤدي على المدى البعيد سوى إلى فتح جرح جديد يمكن أن يشكل عنصر ضعف وإضعاف سيتم استغلاله من خصوم المغرب لمقايضته في قضية أخرى سواء كانت الصحراء أو الريف أو غيرهما.

وفي هذا الصدد فإن العمل في هذه الخانة ينبغي أن لا يتم بالأساليب الاستفزازية والمناهج الصراعية والمناكفات الحجاجية مع من سقطوا ضحايا لغسيل الأدمغة منذ مدة، بل يتعين أن تكون هادئة وحوارية ومبنية على العلم والمعرفة وأن تنشغل في مقاومة التطبيع والتصهين بالأصل وليس بالفروع وبالأسباب وليس بالمظاهر والتجليات حتى لا تتحول التدافع مع نخب إيديولوجية إلى استفزاز حاضناتها الشعبية ودفعها إلى العزة بالإثم والتمادي في الخطأ وتحويل هزائمها الإعلامية إلى نقمة  وقطع خطوط الرجعة وإلى احتقان نفسي غير قابل للعلاج وأن تؤدي  مناهضة التطبيع إلى فتح جراح في عناصر أخرى من عناصر ثوابتنا الجامعة وقيمنا المشتركة.

والله المستعان

شارك عبر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *